للتحميل PDF | الشرق الإسلامى والغرب المسيحى : عبر العلاقات بين المدن الإيطالية وشرقي البحر المتوسط 1450-1517م
الدكتور / سمير علي الخادم ، الكتاب في الأصل أطروحة دكتوراه بالجامعة اللبنانية
عدد الصفحات : 598
الناشر | مرسسة دار الريحاني ، ط1 ، 1989م
هذه الدراسة هي بالأساس رسالة جامعية لنيل شهادة دكتوراه دولة في التاريخ في الجامعة اللبنانية كلية الآداب والعلوم الإنسانية - الفرع الأول وقد نال صاحبها على تقدير جيد من الدرجة القصوى عام 1988م ، كما استحق تهنئة اللجنة الفاحصة.
تقرير | العميدة الدكتورة زاهية قدورة :
رئيسة قسم التاريخ في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية الفرع الأول ورئيسة لجنة مناقشة أطروحة الدكتوراه في التاريخ التي تقدم بها الطالب سمير الخادم تقدم الطالب سمير الخادم برسالة لنيل درجة دكتوراه في التاريخ في كلية الآداب - الفرع الأول - الجامعة اللبنانية بموضوع : علاقات المدن الإيطالية وشرقي المتوسط في الفترة ما بين ۱٤٥٠ - ۱۵۱۷م . وذلك بعد أن استوفى الشروط العلمية التي تؤهله للمثول أمام هذه اللجنة أو الهيئة الموقرة. ويكون بذلك الطالب سمير الخادم أول من تقدم لنيل هذه الدرجة من هذه الكلية ، أي من الفرع الأول من كلية الآداب والعلوم الإنسانية . والسيد سمير الخادم حائز على ليسانس من كلية الآداب ، هذه ، بتقدير جيد جداً ، وعلى دبلوم دراسات عليا من الكلية ذاتها بدرجة جيد جداً أيضاً وفي كلتيهما كان الأول في دفعته كان السيد سمير الخادم منذ بدء دراسته طالباً منضبطاً مجلياً متفوقاً في دروسه وسلوكه الجامعي، مما فتح له باب الانتساب إلى قسم الدكتوراه ، والعمل بجدية ورصانة طيلة سنوات عدة ، لانهاء رسالته هذه التي نحن بصدد مناقشتها من قبل اللجنة المختصة المؤلفة من الأساتذة الدكاترة : د . زاهية قدورة - مشرفة د عبد المجيد - النعنعي - عضو د. عبد الرؤوف سنو - عضو د. عمر التدمري - عضو .
تقرير د . وجيه كوتراني - عضوًا :
لقد اتسمت الرسالة بطابع البحث العلمي الرصين فعالجت المواضيع بدقة وعمق وهي تستند إلى الحقائق المستمدة من الأصول ، والوثائق والمراجع المتعددة عربية وأجنبية مما ساعد على الوصول إلى نتائج واستنتاجات جديدة وطريفة . ومما ساعد الطالب سمير الخادم على الرجوع إلى مختلف المصادر والمراجع كونه يتقن بالإضافة الى لغته العربية ، اللغة الفرنسية والإنكليزية والإيطالية مما أتاح له العودة إلى الحقائق من خلال أصولها ، مما أغنى الرسالة ، وجعل المضمون شاملاً فجمع في ثناياه مختلف الآراء والمعلومات .
أن الملاحظات التي وبعد أن استمعنا إلى مختلف المناقشات والآراء من قبل الأساتذة الأجلاء يبقى القول في أبديت لا تنقص من قدر الجهد الذي بذله السيد سمير الخادم ولا من القيمة العلمية للأطروحة ، وإن ما ذكر في معرض النقد ليس أكثر من ملاحظات وشوائب نرجو تصحيحها وتعديلها عند مراجعة الرسالة وطبعها ويكون بذلك قد أضاف الباحث سمير الخادم إلى المكتبة العربية بحثاً علمياً طريقاً وجديداً وجدياً يشكر عليه ، ويستحق تهنئة اللجنة الفاحصة . رئيسة اللجنة زاهية قدورة بيروت في ٨٨/٦/١٢
مقدمة الرسالة العلمية:
العلاقات بين المدن الإيطالية وشرقي البحر المتوسط ١٤٥٠ - 1517م : تهدف هذه الدراسة إلى إبراز طبيعة العلاقات الإيطالية وعندما نقول الإيطالية يعني ذلك المدن والجمهوريات الإيطالية ، أي البندقية وجنوى وفلورنسا ، وبيزا وغيرها مع الشرق ، مصر وسوريا أي سلطنة المماليك في القرن الخامس عشر حتى أوائل القرن السادس عشر. وهذه العلاقات ما هي إلا جزء هام من إطار كبير شمل العلاقات بين الدولة المملوكية والفرنج أي بين الشرق والغرب . وطبيعة هذه العلاقات قديمة ومتشعبة قدم الحملات الصليبية .
انتهى القرن الثالث عشر بتصفية الإمارات الصليبية في فلسطين وشهد القرن الرابع عشر ردة الفعل لهذه النتيجة الحاسمة . المعسكر الغربي وتمظهر ذلك بما قامت به البابوية في روما من الدعوة إلى تحريم الاتجار مع سلطنةالمماليك ، مهددة بتوقيع قرارات الحرمان من الكنيسة على كل من يخالف أوامرها من تجار الفرنج كافة وعمدت البابوية إلى تنفيذ سياستها بقوة السلاح من طريق إرسال السفن المسلحة بهدف التصدي لمراكب التجار الفرنج الذين كانوا لا يتقيدون بأوامر الكنيسة وقراراتها . استراتيجيا كانت الكنيسة الكاثوليكية ترى أن مجرد امتناع الفرنج عن الاتجار مع سلطنة المماليك سيؤدي حتماً إلى حرمانها من المورد الرئيسي لشرائها وقوتها ، وبالتالي إضعافها وسهولة القضاء عليها. ومتى تم ذلك أصبح بإمكان الغرب استعادة بيت المقدس دون صعوبة - باعتبار أن تجارة المرور بين الشرق والغرب في العصر الوسيط كانت المورد الرئيسي لسلطنة المماليك بما كانت تجبيه من رسوم ومكوس وبما كانت تقوم به من وساطة تجارية .
ما هو موقف المدن الإيطالية من هذه الدعوة ؟
إن مصالح الجمهوريات والمدن الإيطالية ، ذات السيادة البحرية في المتوسط ، قد تعارضت مع هذه الفكرة وعمدت إلى متابعة تعاملها مع الشرق بسبل شتى لطغيان الكسب المادي على الوازع الديني ، مستفيدة من جهة ، من الجهود التي بذلتها السلطات المملوكية من جانبها لتفشيل هذا الحصار الاقتصادي ، بالترحيب بتجار الفرنج عامة وتجار البندقية وجنوى وفلورنسا خاصة وحسن معاملتها لهم ومنحهم الكثير من الامتيازات التجارية التي تضمنتها المعاهدات التي عقدت مع دولهم وجمهورياتهم ومن جهة أخرى عن طريق التماس السماح من قداسة البابا بمعاودة التعامل التجاري مع مصر خوفاً من أن يؤدي إلى خراب المدن الإيطالية خاصة البندقية. وبالفعل سمح البابا كليمون السادس Clement VI للبندقية بإرسال شوانيها إلى الاسكندرية وبقية ديار السلطنة على شرط أن لا تنقل سوى البضائع المرخصة (غير الحربية) وفي سبيل الحصول على الترخيص المطلوب عمدت البندقية إلى دفع مبالغ طائلة إلى حاشية البابا منتصف القرن الرابع عشر .
وإزاء فشل مخططات المقاطعة وإحباط محاولات الاستيلاء على مصر بعد الحملة التي قام بها بطرس الأول ملك قبرص ضد الاسكندرية في عام ١٣٦٥ واضطراره للانسحاب من المدينة بعد بضعة أيام من احتلالها لدى اقتراب وحدات المماليك الزاحفة من القاهرة ، عمد الإفرنج (الأوروبيون) إلى ما يسمى بحرب الاستنزاف عن طريق القيام بعمليات التخريب الواسعة بالموانى المصرية والشامية لشل الحركة التجارية فيها. وبهذا نشطت القرصنة في شرقي حوض البحر المتوسط، وامتلأ الفرن الخامس عشر بأخبار غارات القراصنة الكتلان بالتعاون مع القارضة وفرسان الاسبتارية برودوس على السواحل والثغور المصرية والشامية والتربص لسفن التجار المسلمين من مشارقه ومغاربه في عرض البحر .
إن نجاح حرب الاستنزاف هذه دفعت السلطات المملوكية إلى رفع التحدي وضرورة الاستيلاء على جزيرتي قبرص ورودوس اللتين اتخذ القراصنة من أخوار هما أوكارا لتعبئهم وتجرمهم . ومن ثم كانت الغزوات الانتقامية التي قام بها المماليك ضد الجزيرتين ، هذه الغزوات التي انتهت باستيلائهم على قبرص في عهد السلطان برسباي وبإخفاقهم في احتلال رودوس في عهد السلطان جقمق .
ألهب غزو قبرص، والتهديد بغزو رودوس العلاقات المملوكية مع الفرنج وعاد الغرب بعد فشل المماليك بغزو رودوس مراراً إلى التخطيط والتحضير لمشاريع الهجوم المعاكس ضد سلطنة المماليك وعلى نطاق عام وواسع عن طريق ضم الحبشة إلى الكنيسة الكاثوليكية والتحالف معها للقيام بحملة مزدوجة للاطباق على مصر براً وبحراً ومن الجنوب والشمال في وقت واحد . ومما شجع الفرنج على المضي في هذه المخططات أن الحبشة قد أصبحت في ذلك الوقت مسرحاً لحرب صليبية نظراً لما كان يحدث من وقت لآخر من نشوب القتال بين ملوك الحبشتة المسيحيين وملوك حول الطراز الإسلامية .
وهذه الروح أيضاً هي التي دفعت البرتغاليين إلى بذل الجهود الجدية تكشف طريق للوصول إلى الهند والحبشة غير طريق البحر الأحمر عبر مصر ، وذلك لكي تحقق لهم انتزاع تجارة الشرق من يد سلطنة المماليك وحرمانها من أهم مواردها. وكان نجاح البرتغاليين في اكتشاف هذه الطريق في السنوات الأخيرة من القرن الخامس عشر أحد أهم العوامل التى أدت إلى سقوط سلطنة المماليك.
إزاء هذا الوضع ما هو دور التجار من الفرنج الذين كانوا يرتادون أسواق مصر والشام أو الذين كانوا يقيمون في أراضي السلطنة المملوكية وما هو دور قناصل الفرنج الذين كانوا يشرفون على شؤون التجار بالمدن والثغور المصرية والشامية ؟
لا شك في أن التجار والقناصل الذين كانوا يتمتعون بحرية الإقامة والتنقل قد أسهموا إلى حد بعيد في ازدهار حركة التجارة ما بين الشرق والغرب إلا أنهم كانوا أيضاً عيوناً للبابوات وملوك الفرنج ينقلون إليهم أخبار السلطنة وأحوالها.
ولا شك أيضاً أن الرهبان الفرنسيسكان المقيمين بالأراضي المسيحية المقدسة وهم من الفرنج قد قاموا برسالتهم الدينية إلا أنهم كانوا يقومون أيضاً بتأمين الاتصال ما بين البابوات وملوك الفرنج من جهة وملوك الحبشة من جهة ثانية وذلك عن طريق الرهبان الأحباش المقيمين معهم بالقدس .
وهكذا طغت عليهم الصبغة السياسية، واضطرت السلطات المملوكية من جانبها ، عندما كانت تحدق بها الأخطار، إلى أن تنظر إليهم من هذه الزاوية . فأصبحوا في نظرها يمثلون من الناحية السياسية البابوية وأمم الفرنج ، وأصبح لهم وضع بقية الطوائف الأخرى المقيمة معهم بالقدس . وانقضى القرن الخامس عشر دون أن يستطيع البابوات وملوك الفرنج تحقيق مشروعاتهم، إذ غدا تنفيذها وهما من الأوهام خاصة وإن السلطات المملوكية اكتشفت خطط التآمر ضدها بين ملوك الحبشة ، فقامت بتشديد الرقابة على طريق الاتصال بين أوروبا والحبشة وعدم السماح للفرنج ، سواء أكانوا تجاراً أم رهباناً أم رسلاً بالمرور عبر أراضيها في طريقهم إليها . كما أن ملوك الحبشة قد تخلوا آخر المطاف . الروح والمخططات وآثروا عودة العلاقات الطيبة بين مصر والحبشة ورعاية المصالح المشتركة بينهما والتمسك الشديد بالرابطة التي تربطهم بالكنيسة القبطية .
هذه عن ومع انقضاء القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر استمر قراصنة الفرنج في شن غاراتهم وتجرمهم على المرافيء والسواحل المصرية والشامية وعلى سفن المسلمين في عرض البحر . ولم يكن سلاطين المماليك يملكون من وسيلة للمطالبة باستعادة أسرى المسلمين والأموال والبضائع ، التي كانت تقع غنيمة في أيدي هؤلاء القراصنة سوى الالتجاء إلى تطبيق مبدأ المسؤولية الجماعية إزاء قناصل الفرنج وتجارهم المقيمين بدولتهم ، فكان السلطان يأمر بالقبض عليهم والتحفظ على أموالهم وبضائعهم وأحياناً أخرى كان يلجأ إلى القبض على الرهبان الفرنسيسكان المقيمين بدير صهيون بالقدس ، وتهديد الفرنج بغلق كنيسة القيامة في وجوه حجاجهم . كما كان يكلف هؤلاء الرهبان بإرسال بعضهم كسفراء لدى البابا وملوك الفرنج كوسيلة من الضغط السياسي عليهم .
وكانت السلطات المملوكية مجبرة على الالتجاء إلى هذه الإجراءات الأنها لم تكن تتبادل التمثيل السياسي مع دول الفرنج وجمهورياتهم ، فليس لها مصالح خاصة تدعوها إلى ذلك. وإنما كان الأمر على عكس ذلك ، فهذه الدول وهذه الجمهوريات هي التي كانت تسعى بأموالها وتجارها وقناصلها إلى أسواق مصر والشام حرصاً على المكاسب الباهظة التي كانت تجبيها من الاتجار معها .
ولما كانت العلاقات المملوكية - الإيطالية عميقة الجذور ومتشعبة قدم الحملات الصلبة ، فقد ارتابت در استها من خلال النقاط التالية :
الفصل الأول : الطرق التجارية.
الفصل الثاني :الأسطول .
الفصل الثالث: الذهب والفضة والعملات النقدية.
الفصل الرابع: السفارات والمعاهدات .
الفصل الخامس : البضائع المتبادلة
- الفلفل والبهار (تجار الكارمية)
- الرقيق
- السلع المتبادلة الأخرى
الفصل السادس: مصير سلطنة المماليك .
حدود الدراسة :
وضعت الدراسة في إطار زمني محدد ١٤٥٠ - ١٥١٧ ونحن قد اتخذنا من عام ١٤٥٠ منطلقاً لدراستنا نظراً لتحول الطرقات التجارية الدولية إلى ديار سلطنة المماليك الآمنة نتيجة لاضطراب الأوضاع وحالة عدم الاستقرار في آسيا الصغرى وجهات البحر الأسود بسبب تعاظم نفوذ العثمانيين الذين انتهوا بالاستيلاء على القسطنطينية عام ١٤٥٣م.
بالإضافة إلى أن السنين الأولى في النصف الثاني للقرن الخامس عشر تعتبر نقطة تحول هامة بسبب إخفاق المماليك في السيطرة على جزيرة رودوس مما أتاح للفرنج اتخاذ زمام المبادرة فشنوا عدة هجمات على الموانىء والثغور المملوكية في المتوسط مما دفع السلطان للقيام بأعمال انتقامية ضد القناصل التجار الإيطاليين وغيرهم القاطنين في الإسكندرية وبيروت والقدس كوسيلة الدرء تلك الهجمات على بلاده .
أما سنة ١٥١٧ فهي تشكل صفحة جديدة في تاريخ الشرق وهي نقطة تحول هامة تشير إلى نهاية سلطنة المماليك واستبلاء العثمانيين على القاهرة ونحن قد توقفنا عندها حتى لا ندخل في دراسة جديدة واسعة ومتشعبة
وقد بدا لي واضحاً من خلال قراءتي لما كتبه المؤرخون والرحالة المسلمون والأجانب في الفترة التي نتناولها أن سلطنة المماليك كانت دولة قوية مرهوبة الجانب ولذا جاءت علاقاتها واتفاقياتها مع المدن والجمهوريات الإيطالية بمثابة عطاء من سلطان مترفع إلى سائل متواضع .
كما ساعدني ذلك على تكوين صورة مشرقة عن واقع الحال في سلطنة المماليك التي نجحت عموماً في جعل ميزان المدفوعات التجاري دائماً لصالحها ، والوقوف على الأسباب الحقيقية التي منعت المدن والجمهوريات الإيطالية من نقل التكنولوجيا الجديدة في صناعة السفن والأسلحة النارية إلى مصر وسوريا وهي أسباب عديدة تعود بمجملها إلى تقيد المدن والجمهوريات الإيطالية بقرارات البابوية وإلى قيامها بلعبة مزدوجة Double Game تهدف إلى وضع مصالحها التجارية فوق كل اعتبار ولو أدى ذلك إلى إلحاق الضرر بسلطنة المماليك .
وقد تبين لي أن هناك أسباباً أخرى تعود إلى مجتمع المماليك العسكري نفسه الذي تشبث بأسلحته التقليدية رافضاً تقبل فكرة التطور التكنولوجي لجهة استعمال السلاح الناري والذي كان من أهم الأسباب التي أدت إلى انتحار سلطنة المماليك أمام التفوق العثماني .
تقع هذه الدراسة في أربعمائة واثنتي وأربعين صفحة ، وهي تشمل بالإضافة إلى الفصول السنة ملحقاً للخرائط يبين مجمل الطرقات البرية البحرية المعروفة في تلك الفترة، وقد ساعدني على كتابة هذه الدراسة الموضوعية وعمق ناحيتان أساسيتان :
ا - معرفتي للغة الفرنسية والإنجليزية والإيطالية مما أتاح لي العودة إلى الجذور ، إلى المصادر العربية والإسلامية وإلى المصادر والمراجع الأجنبية الأساسية والأصيلة والعائدة بشكل خاص للمدن والجمهوريات الإيطالية
٢ - كوني ضابطاً بحرياً تدرجت في أرقى المدارس العالمية وسافرت بحراً حول العالم فقد أتاح لي ذلك التعمق في معرفة علوم البحار والطرقات البحرية والشواطىء مما ساعدني كثيراً على رسم طرقات التجارة البحرية بدقة واتقان ، إن كان ذلك في المحيط الهندي والبحر الأحمر والخليج العربي أم في البحر المتوسط فجاءت واضحة ومطابقة للواقع ومستندة إلى الخبرة والمعرفة .
وقد تجلى هذا في الحديث عن أسطول المماليك في الفترة التي تهمنا فقد جاء وافياً ومبتكراً وبينت أسباب ازدهار أسطول المماليك ونوعية المراكب المستعملة والمعروفة آنذاك وهذا نوع من التجديد ، كما أنني ذكرت التباين في نوعية المراكب المستعملة في كل من البحر الأحمر والبحر المتوسط وتطرقت إلى الحديث عن القواعد البحرية وذكرت وضع مدينة بيروت ومدينة طرابلس بشكل لم يتطرق إليه أحد من الكتاب العرب .
أما فيما يتعلق بالأساطيل الإيطالية فلعل التجديد في ذلك هو الحديث عن الرحلات الموسمية المعروفة بالمدة) Muda وهي الفترة التي تقضيها المراكب الإيطالية (البندقية) في المرافىء الإسلامية لإكمال حمولتها وقد أسهب الكتاب في تفسير معنى كلمة المدة، إلا أن التفسير العربي هـو الأصح .
أما في باب الذهب والفضة والعملات النقدية فقد جاء هذا الفصل حراً بالمعلومات الدقيقة والاستشهادات العديدة وأوضحت النظام النقدي في سلطنة المماليك وبينت كيفية ضرب الدنانير والدراهم والفلوس وعللت الأسباب الحقيقية الكامنة وراء تدهور قيمة الفلوس مستنداً في ذلك إلى المصادر المتعددة ، خاصة إلى ما جاء في كتابات المقريزي وأهمها كتاب إغاثة الأمة في كشف الغمة
ولعل أهم ما توصلت إليه هو وقوف السلطات المملوكية آنذاك وراء ارتفاع الأسعار خاصة لجهة صرف الدينار إزاء الفلوس النحاسية ، تماماً كما يحدث اليوم بالنسبة لارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي إزاء العملة المحلية اللبنانية. وقد بينت أيضاً أنه كما يلعب الدولار اليوم دوراً عظيماً كوحدة نقد قوية ومتداولة عالمياً ، كذلك لعب النقد البندقي المعروف بالدوكاتو دوراً بارزاً آنذاك وكان مقبولاً وثابتاً يتعامل به الناس في الشرق والغرب على السواء حتى استحق اسم دولار العصور الوسطى الخاصة .
والجدير بالذكر أنه في حين اعتمدت المدن الإيطالية وخاصة البندقية على الذهب والفضة في معاملاتها تحولت سلطنة المماليك في أيامها الأخيرة إلى اعتماد نظام التعامل بالفلوس النحاسية حتى أضحى الدينار وكأنه عملة أرستقراطية لا تتعامل بها عامة الشعب وإنما طبقة الأعيان وكبار التجار والنخبة من مجتمع المماليك المميز ، ومما يلفت الانتباه أن التضخم قد استشرى مفعوله فغلت الأسعار بشكل مريع وبشكل اضطر معه الناس إلى التعامل بالفلوس النحاسية عن طريق الوزن وليس عن طريق المعاددة ولا نستبعدن أن نصل إلى هذا الدرك من الانهيار الاقتصادي في أيامنا هذه.
أما البعثات ما بين المماليك والمدن الإيطالية فقد جاءت صورتها مشرقة ومتجددة، والواقع أن البعثات بصورة عامة ما بين المماليك والمدن الإيطالية كانت قليلة لعدم رغبة المماليك في إرسال سفارات متعددة إلى الغرب . ولعل أهم هذه البعثات المملوكية سفارة ابن محفوظ إلى فلورنسا والتي لم تشر إليها المصادر العربية إلا قليلاً في حين أسهبت المراجع الإيطالية في وصف هذه السفارة خاصة لما اصطحب معه ابن محفوظ من هدايا وحيوانات غريبة إلى حاكم فلورنسا وكان من نتيجة هذه السفارة اتفاقية وقعها السفير الفلورنسي دي لاستوفا مع السلطان قايتباي ٨٩٤ هـ / ١٤٨٩م وهناك سفارات أخرى أرسلها المماليك إلى جنوبي أوروبا وأهمها سفارة الراهب مارو داسان برناردينو إلا أن أهم السفارات المملوكية إطلاقاً هي سفارة الأمير تغري بردي الترجمان إلى البندقية مع أن المصادر العربية قد أهملت هذه السفارة إلا أن المصادر الإيطالية وخاصة البندقية قد تحدثت الكثير عنها ووصفت تغري بردي وما رافقه من المماليك والقضاة وصفاً دقيقاً وقد تبين أن الأمير تغري بردي لم يكن لديه الصلاحيات الكافية لتوقيع أية اتفاقية فاضطر لأخذ موافقة السلطان قبل إبرام معاهدة مع البندقية ولذلك كانت إقامته في أوروبا طويلة وكان من نتيجة ذلك أن وقع اتفاقية سنة ١٥٠٧/٩١٣ وكانت كلها لصالح البندقية ويقال إن الأمير تغري بردي قد خان مصالح سيده لقاء بذل المال له ولذلك لم يعمد السلطان الغوري على الاعتراف بتلك الاتفاقية وتصديقها ، ويبدو أن السلطان قد غضب على ترجمانه الأمير تغري بردي بسبب هذه الاتفاقية فنعته بالخسيس وزجه في السجن، وقد تبين أسباب إعفاء تغري بردي من منصبه وتوقيفه قيامه بمراسلة أمم وملوك الفرنج وتزويدهم بمعلومات خطيرة حول أوضاع السلطنة . غير أنه بدا لي أن السبب الرئيسي في اعتقال الأمير تغري بردي هو مسؤوليته المباشرة عن مقتل الأمير محمد قريب السلطان في خليج اياس ( إسكندرونة ) حين باغته فرسان الاسبتارية وهو يقطع الأخشاب فقتلوا الأمير واستولوا على مراكبه وأخشابه وكان تغري بردي قد أقنع السلطان أن يأمن جانبهم فغدروا أن من بقريبه.
وقد أدرجت نص الاتفاقية بالإيطالية ونصها المترجم إلى العربية لأن النص الأصلي بالعربية هو مفقود باعتبار أن السلطان لم يعمد إلى تصديقها بالتالي إلى نشرها وتعميمها عن طريق المراسيم والمناشير . وقد ظل ظل هذه لاتفاقية مسيطرا على كافة الإتفاقيات التي عقدت فيما بعد بين سلطنة المماليك والبندقية خاصة إتفاقية السفير البندقي درمنيكو ترفيران والسلطان الغوري المعروفة بالإتفاقية الشاملة (۱۵۱۲/۱۵۱۱) وكانت نصراً كاملاً للبندقية في كل بند من بنوده باعتبار أن هذه الإتفاقية قد جعلت من البنادقة يتصرفون في معاملاتهم مع السلطان على أساس الند للند في خير كانت الإتفاقيات السابقة تبدو وكأنها عطاء من سلطان مترفع إلى سائل متواضع، فالتسهيلات التي كانت تعطى للدول الأوروبية وللتجار الفرنج وخاصة الإيطاليين لم تكن بمثابة امتيازات كما نفهمها اليوم ، ولكن بمثابة تسهيلات وعطاءات من السلطات المملوكية لحماية طوائفهم وتجارتهم ، وهذا نوع من التجديد أظهرته باعتبار أن السلطان قد عمد كم من مرة على إلغاء عطاءاته وصدقاته هذه فألقى القناصل والتجار الإيطاليين في غياهب السجون وقام بالترسيم على بضائعهم حين يشعر بقيام هؤلاء التجار والقناصل أو دولهم بما يضر بمصالح السلطنة أو أمور المسلمين .
أما فيما يتعلق بالسلع المتبادلة ما بين سلطنة المماليك فقد كتب الكثير الكثير عنها غير أن التجديد لدينا هو في تبويب هذه السلع المتبادلة بالنسبة للمدن الإيطالية التي كانت تتعامل مع السلطنة ، كالبندقية وجنوى وفلورنسا وأنكونا وصقلية والتجديد جاء أيضاً لدى الحديث عن تجارة الفلفل وتجار الكارمية وهم تجار التوابل ، فقد أدرجت أسماءهم وأنسابهم وشرحت الدور الذي قاموا به وتحدثت عن مجتمعهم وشهرتهم وشرحت كيف أضر تجمعهم عندما عمد السلطان إلى احتكار تجارة التوابل ، وقد جاءت ملاحظاتي حول الكارمية عميقة ومفعمة بالمعلومات الوافية والدقيقة بحيث لم يسبقني إلى هذا الشرح الكامل أحد من قبل مع أن الكتاب الأجانب قد تطرقوا إلى هذا الموضوع بكثير من التفصيل غير أنني قد تميزت عنهم بالعودة إلى المصادر والمراجع العربية الأصيلة فأوردت الاستشهادات المتعددة التي أخذتها مباشرة من النصوص العربية .
وما يقال عن الكارمية يقال عن الرقيق فمجتمع المماليك هو مجتمع عسكري غالبية أفراده كانوا من الأرقاء الذين جلبوا من نواحي البحر الأسود ، والجديد في الرسالة هو ما تحدثت عنه حول مجتمع المماليك وكيفية شراء الرقيق وأسعارهم وتربيتهم وأسمائهم وأنسابهم والعلاقة فيما بينهم وبين سيدهم والتاجر الذي كان يسمى (الخواجا) وعن الدور الهام الذي قامت به كل من البندقية وحوى في تجارة الرقيق وعملية تقلهم بحوا من كافا وتانا في البحر الأسود إلى مصر.
وقد أظهرت أن المدن الإيطالية كانت تستجلب عدداً كبيراً من الأرقاء کسلطنة المماليك غير أن الإيطاليين كانوا يرغبون في الاناث لمتعتهم والخدمة المنازل في حين كان المماليك يفضلون الذكور للانخراط في الجيش .أما على الجبهة العثمانية فقد فشل المماليك أيضاً بسبب عدم استعمالهم للأسلحة النارية. وقد أبرزت عاملاً مهماً كان له الانعكاس الأكبر على . سلطنة المماليك ألا وهو طبيعة تكوين مجتمع المماليك العسكري ورفضه لكل شكل من أشكال التغيير والتطور التكنولوجي خاصة لجهة استعمال الأسلحة الجديدة وقد عنينا بذلك استخدام السلاح الناري . ففي رأينا تعنت المماليك في بعض التكنولوجيا الجديدة وأحجام المدن الإيطالية عن تقديم هذه التكنولوجيا المتوفرة لديها إلى سلطنة المماليك أديا إلى سقوط هذه السلطنة أمام ضربات العثمانيين الذين أحسنوا استخدام السلاح الناري ونضيف أن قبل زوالها كانت تعتبر لحقبة طويلة من الزمن مركز سلطنة المماليك هي وقد أظهرت أن المدن الإيطالية كانت تستجلب عدداً كبيراً من الأرقاء کسلطنة المماليك غير أن الإيطاليين كانوا يرغبون في الاناث لمتعتهم والخدمة المنازل في حين كان المماليك يفضلون الذكور للانخراط في الجيش ..
ومع أن المماليك قد عززوا جبهة الهند فعمروا المراكب وسبكوا المدافع وأحدثوا وحدات حملة البنادق ومنها الطبقة الخامسة إلا أن جهودهم باءت بالفشل لتفوق البرتغاليين عليهم من الناحية التقنية ولعدم رغبة وخبرة المماليك الفرسان في ركوب البحر ولعدم مساعدة البندقية لهم مساعدة فعالة بسبب قرارات الكنيسة.
أما على الجبهة العثمانية فقد فشل المماليك أيضاً بسبب عدم استعمالهم للأسلحة النارية. وقد أبرزت عاملاً مهماً كان له الانعكاس الأكبر على . سلطنة المماليك ألا وهو طبيعة تكوين مجتمع المماليك العسكري ورفضه لكل شكل من أشكال التغيير والتطور التكنولوجي خاصة لجهة استعمال الأسلحة الجديدة وقد عنينا بذلك استخدام السلاح الناري . ففي رأينا تعنت المماليك في بعض التكنولوجيا الجديدة وأحجام المدن الإيطالية عن تقديم هذه التكنولوجيا المتوفرة لديها إلى سلطنة المماليك أديا إلى سقوط هذه السلطنة أمام ضربات العثمانيين الذين أحسنوا استخدام السلاح الناري ونضيف أن قبل زوالها كانت تعتبر لحقبة طويلة من الزمن مركز الحضارة والسلطة في شرقي المتوسط
ومع أن المماليك قد عززوا جبهة الهند فعمروا المراكب وسبكوا المدافع وأحدثوا وحدات حملة البنادق ومنها الطبقة الخامسة إلا أن جهودهم باءت بالفشل لتفوق البرتغاليين عليهم من الناحية التقنية ولعدم رغبة وخبرة المماليك الفرسان في ركوب البحر وتعلم مساعدة البندقية لهم مساعدة فعالة بسبب قرارات الكنيسة الحضارة والسلطة في شرقي المتوسط.
استغرق إعداد هذه الدراسة حوالي السبع سنوات ولم يكن باستطاعتي اتمامها بنجاح لولا توجيه ورعاية العميدة الدكتورة زاهية قدورة رئيسة قسم التاريخ في الجامعة اللبنانية التي أشارت علي بالعودة إلى الأصول والتي أكن لها عميق تقديري وامتناني لتفضلها بقبول الإشراف على رسالتي وتزويدي بملاحظاتها وإرشاداتها القيمة.
وإني أشكر الدكتور أحمد أبو حاقة مدير كلية الآداب - الفرع الأول لمساعدته وتشجيعه لي".
كما أنتهز هذه المناسبة للتعبير عن شكري وامتناني للدكتور كمال الصليبي رئيس قسم التاريخ السابق في الجامعة الأميركية في بيروت الذي أشار علي باختيار هذا الموضوع وشجعني على دراسة اللغة الإيطالية ، كما أخص بالشكر والتقدير الدكتور سمير صيقلي رئيس قسم التاريخ الحالي في الجامعة الأميركية في بيروت والذي قرأ لي الفصل الأول والثاني والثالث واستفدت من ملاحظاته وتوجيهاته. ولا أنسى أن أخص بشكري وامتناني استاذي الدكتور طريف الخالدي من الجامعة الأميركية قسم التاريخ الذي أشار علي بانتقاء المراجع والمصادر المناسبة وساعدني في تبويب فصول الرسالة حتى جاءت في صورتها النهائية. ولا بد لي من توجيه الشكر إلى الدكتور رونكاليا من المركز الألماني للدراسات الشرقية في بيروت لملاحظاته وإرشاداته ومساعدته لي في تذليل الكثير من المصاعب العائدة للغة الإيطالية.
وإنني أتوجه بالشكر إلى كل من الدكتور عبد المجيد النعنعي . والدكتور عبد الرؤوف سنو. والدكتور وجيه كوثراني والدكتور عمر تدمري . كلهم من الجامعة اللبنانية - كلية الآداب - الفرع الأول والذين قرأوا رسالتي وتكرموا بإعطائي الملاحظات والتوجيهات خاصة فيما يتعلق بالمراجع صادر والعودة إلى الأصول التي أخذت بها عن طيب خاطر وامتنان كما أخص بالشكر والامتنان السيدة س . نعمة أمينة سر قسم التاريخ في جامعة الأميركية لمساعدتها الجمة لي ولطبعها مشروع رسالتي مع المصادر ولما سببته لها من عناء كما أتوجه شكري إلى العاملين في مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت. وخاصة السيدة نعماني لمساعدتهم لي وتعاونهم معي على أكمل وجه . وأخيراً القدم شكري وامتناني لزوجتي الحبيبة ماهدا لتوفيرها الأجواء الملائمة ولتشجيعها الدائم لي لمواصلة البحث والكتابة لإتمام هذه الدراسة بالرغم من الظروف الصعبة التي نمر بها ..
الجامعة اللبنانية - كلية الآداب والعلوم الإنسانية - الفرع الأول بيروت في ١٩٨٨/٦/١٤
العقيد الركن المهندس البحري سمير الخادم
الرابط
اضغط هنا
0 التعليقات :
إرسال تعليق