الأوضاع التاريخية في الشرق الإسلامي في القرن الثالث عشر الميلادي
بقلم الدكتور السيد الباز العريني ، المماليك ؛ الفروسية في مصر عصر سلاطين المماليك
دار النهضة العربية بالقاهرة ، ط1 ، 1967م ، ص34-51.
تناول العريني " امبراطورية صلاح الدين - تقسيمها بين افراد اسرته – العـــــادل ومحاولته المحافظة عليها استشاره بالسلطة ، تجدد النزاع بين الأيوبييين - القوى التي عملت على تشكيل تاريخ مصر والشرق الاسلامي : الصليبيون - المغول - الامارات الواقعة على اطراف الامبراطورية الايوبية - ظهور المماليك.
أول الأوضاع السياسية اللازمة للتمهيد لهذا البحث هو الدولة الأيوبية أواخر أيام صلاح الدين، حين جعل هذا السلطان كل اعتماده على اخيه سيف الدين العادل في تدبير شئون مصر عند خروجه من القاهرة بجيشه سنة (٥٧٨ هـ /١١٨٢) ، وهي السنة التي لم يعد صلاح الدين بعدها الى مصر . ثم حدث أن ولي العادل أمر حلب سنة (٥٨٠ هـ /١١٨٤ ) وعهد صلاح الدين بأمر مصر إلى تقي الدين عمر ابن أخيه . غير أن العادل ما لبث أن عاد إلى مصر صحبة العزيز عثمان بن صلاح الدين سنة ٥٨٤ هـ بعد أن تبين فشل تقي الدين عمر في تدبير أحوالها . وأعد صلاح الدين أولاده ليتولوا الحكم بعده ، فتولى أكبرهم وهو الأفضل حكم نصیب الظاهر غازي دمشق ، وحكم العزيز مصر ، وبقيت حلب من وتولى أبناء عمومتهم حكم حماه وحمص وبعلبك ، وولي اليمن عم لهم هو طغتكين بن ايوب . أما الجزيرة وديار بكر فظلت على حالتها إقطاعا للعادل ، ومن الواضح أن مصر غدت أعظم الدول أهمية حتى أن نقود دمشق بعد وفاة صلاح الدين ضربت سنة ٥٩١ هـ (۱۱۹۳ ) ، باسم العزيز صاحب مصر ، مع العلم بأن دمشق لم تكن تحت حكمه .
ثم لم تمض سنة واحدة على وفاة صلاح الدين حتى دب الشقاق بين أولاده وسائر أفراد اسرته، فحاصر العزيز دمشق ، وتدخل العادل والظاهر صاحب حلب في وقف النزاع بين الأخوين ، غير أن الحرب قامت بينهما من جديد ، وطارد الأفضل أخاه العزيز داخل الأراضي المصرية حتى بلبيس . وانتهز العادل الفرصة للعمل على توحيد الإمبراطورية تحت زعامته لمصلحته ، بعد أن فشلت مساعيه في التوفيق بين أولاد أخيه فضلا عن أهمية مصر في مناوأة الصليبيين . وادرك العادل الفرق الكبير بين كل من الأفضل والعزيز ، اذ اغرق الأول في شرب الخمر والميل الى اللهو والانغماس في المباذل والحرص على امتلاك مصر ، على حين اشتهر الثاني بالسجايا الطيبة كالمروءة والسخاء مما يسر للعادل ان يتخذ منه أداة لتحقيق أغراضه ، فزين أولا للعزيز انتزاع دمشق من يد الأفضل ، حتى إذا تم له ذلك حكمها نيابة عنه ٥٩٢ هـ / ۱۱۹٦) .
ولما قوي مركزه بعد أن أصبح واليا على الشام ، سار العادل قاصدا جهات الجزيرة حيث إقطاعه القديم لتوطيد سلطانه وحماية الجزيرة مما عساه يقوم به خصمه القديم أتابك أرسلان شاه صاحب الموصل ، فاعاد إلى ربوعها الأمن والسلام ، وظلت هذه الجهات بيد أبناء العادل إلى أن اغار عليها المغول ، على أن العادل رجع مسرعا إلى مصر بسبب وفاة العزيز سنة ٥٩٥ هـ وقدوم الأفضل الى القاهرة وصيا على ابن العزيز . واستغل الافضل الفرصة لاعادة سلطانه في دمشق ، فخرج من القاهرة للاستيلاء عليها . وتقدم الظاهر صاحب حلب لمساعدته في ذلك ، لولا ان العــادل استطاع أن يسبقهما في الوصول الى دمشق ، فرجع الافضل الى القاهرة خائبا .
واعقب ذلك اضطرار الأفضل كذلك الى مغادرة مصر نهائيا سنة ٥٩٥هـ ، فغدا العادل سيدا على امبراطورية صلاح الدين جميعها سنة ٥٩٦هـ ، ما عدا بلاد الغرب وأعالي الشام حيث حكمت فروع من البيت الأيوبي في حلب وحمص وحماه ، واحتفظت هذه
الدويلات الشامية باستقلالها مقابل الاعتراف بزعامة العادل ، والتعهد بتقديم المعونة الحربية اليه كلما طلب ذلك . ثم خلع العادل المنصور بن العزيز من حكم مصر، واقام نفسه سلطانا، وجعل ابناءه نوابا عنه في حكم الجهات الخاضعة له، فتولى الكامل ادارة مصر، وحكم المعظم دمشق ، اما الاوحد والفائز والاشرف والحافظ فباشروا امور الجهات الواقعة على دجلة والفرات ، وهي التي تسميها المراجع البلاد الفراتية والمشرق . من على ان دولة العادل لم تكن بنجوة من تهديد الصليبيين ، فضلا عما اصاب مصر من انخفاض النيل سنة ٥٩٦ وما نجم عنه من الأوبئة والمجاعات وهجرة السكان ، غير انه افاد اختلاف الصليبيين على انفسهم فعقد مع املريك ملك بيت المقدس سنة ٦٠١ (١٢٠٤ ) هدنة مقابل التنازل عن يافا والرملة وصيدا، كما عقدهدنة مع امير طرابلس سنة ٦٠٤ (١٢٠٧) ، غير انه لم يمض زمن طويل حتى أعد جان دي بريين ملك بيت المقدس حملة صليبية وجهها الى مصر سنة ٦١٥ (۱۲۱۸) بعد ان غدت مركز المقاومة الاسلامية مرة اخرى فاستولت على دمياط . ومات العادل في هذه السنة ، وخلف لابنه السلطان الكامل معالجة الموقف . وما زال الكامل حتى حمل الصليبيين على طلب الصلح وجلوا عن دمياط سنة ٦١٨ هـ ) ١٢٢١ ) وعقد . معهم هدنة لمدة ثماني سنوات . وفي اثناء وجود الصليبيين بالاراضي المصرية ضاق الكامل بمؤامرات البيت الايوبي ضده، فعمل على تأمين مصر وحماية ممتلكاته بالشام ، بان عقد مع الامبراطور فردريك الثاني معاهدة سنة ٦٢٦ ) ۱۲۲۸ م ) كفلت له تحقيق غرضه •
وامعانا في تحقيق هذه السياسة استولى الكامل على آمد من يد الارتقيين سنة سنة ٦٢٩، بعدان ظلت في أيديهم نحو ۱۳۰ سنة ، وحارب كيقباذ سلطان سلاجقة الروم في آسيا الصغرى ، ونزع الرها من يده . وعمل على تقوية اسرته بان زوج اميري حلب وحماه . من ابنتيه ، ومع هذا لم يسلم الكامل من حقد اقاربه بسبب ما قام به من اعمال في سبيل الابقاء على الامبراطورية الايوبية ، فاضطر الى ضم دمشق الى ممتلكاته سنة ٦٣٥ ( ۱۲۳۷ م ) بعد وفاة اخيه الاشرف ، على حين اخذ اخوه الصالح اسماعيل بعلبك ومدنا اخرى . ومات الكامل بدمشق سنة ٦٣٥ بعد ان حكم مصر اربعين عاما منها عشرون نائبا عن ابيه العادل وعشرون سلطانا . ولم يمكث العادل الصغير بعد ابيه الكامل في السلطنة سوى عامين كلها مجون ولهو ، فخلعه الجند وتولى السلطنة اخوه الصالح سنة ١٣٨ هـ ١٣٤٠) وهو الذي استدعى الخوارزمية الفارين من وجه چنگیزخان فاستولى بمساعدتهم على بيت المقدس سنة ٦٤١ هـ ( ١٢٤٤ ) كما استولى على دمشق سنة ٦٤٣ هـ ( ١٢٤٥ ) وعسقلان سنة ٦٤٥ (١٢٤٧) من عمه الصالح اسماعيل صديق الصليبيين، وبذا بلغت دولة الصالح ايوب ما كانت عليه من قوة وسلطان في عهد ابيه وجده ثم نزل لويس التاسع ملك فرنسا بجيوشه على دمياط سنة ٦٤٨ (١٢٤٩) في حملة صليبية ضخمة (٣) . ومات الصالح في الوقت الذي زحف فيه الفرنسيون من دمياط نحو الجنوب سنة ٦٤٨ ، فقامت زوجته شجر الدر بتسير دفة الحرب وشئون البلاد حتى قدم ابنه توران شاه من حصن كيفا بديار بكر سنة ٦٤٨ هـ ( ١٢٥٠م) فاجــلاهم عن البلاد بمساعدة المماليك اما العامل الثاني في تكييف الأوضاع السياسية في الشرق الأوسط فهو حركة المغول بزعامة جنكيز خان سنة ٥٩٩ ( ١٢٠٢ م ) وزحفهم نحو الاراضي الاسلامية ، فاستولوا على بخارى وسمرقند وقتلوا اهلهما وسبوهم و حصروا خوارزم شاه ، فانضم اليهم الخطائيون من جنده وصاروا تبعا لهم ، واخلی خوارزم شاه البلاد قبل مقدمهم فلم يجدوا احدا يردهم ، ووصلوا سنة ٦١٥ هـ ( ١٢١٧ ) الى الري وقزوين و همدان وقتلوا اهلها واحرقوا مساجدها ، وفعلوا بآذربیجان ما فعلوه بغيرها من المدن .
وحاول خوارزم شاه الاستنجاد وقتذاك بالسلطان العادل ايوب وهو مرابط بمرج الصفر ، فبعث العادل بالجواب متأخرا بعد ان اندفع خوارزم . بين يدي الخطا والتتار شريدا مخذولا من عسكره الخوارزمية • شاه و انبسطت يد جنكيز خان واشتد ساعده وخلت البلاد المقاومة من فبعث سنة ٦١٨ هـ ( ۱۲۲۰) باولاده واحفاده الى الآفاق ، فتوجه باطو بن دوش خان بن جنكيز خان الى البلاد الشمالية ، وبلغت جموعه الدربند على بحر الخزر ) قزوين ( ، وحدثت بينهم وبين القبجاق والروس وقعة كبيرة سنة ٦٢٠ هـ ) ۱۳۲۲ ) ، انتهت بهزيمة القبجاق والروس وتشريدهم في الافاق على غير هدى ، واستولى باطو على ما بتلك الجهات من طوائف الترك وقبائل القبجاق والعلان واللان والادلاق والجركس والروس وتمكنوا منهم قتلا وسبيا ونهبا ، وجلبت سبايا هذه الأجناس الى البلاد الشامية والمصرية ، فمنهم المماليك العادلية والكاملية والاشرفية والمعظمية والناصرية والعزيزية ، وحسنت آثارهم في الممالك الاسلامية ، ثم رجعت جموع النار جنوبا حتى هبطت على الري فوضعوا السيف في اهلها ، وانزلوا بها الدمار والخراب، وفعلوا مثل ذلك او اشد بدن قم وقاشان و همدان، وكلها تابع للدولة الخوارزمية . ثم تعقبوا الجيوش الخوارزمية الى اذربيجان فكسروهم وقتلوا منهم خلقا كثيرا ، واعقب ذلك هزيمة سلطانهم جلال الدین خوارزم شاه في اصفهان سنة ٦٢٣ هـ ، وغلب على حروب جنكيز خان الاكتساح والتخريب والتدمير كي تصبح البلاد المفتوحة مراعي المغولية . كافية للجموع ولم تغير وفاة جنكيز خان سنة ٦٢٤ هـ (١٢٢٧ ) شيئا في الحركة الذاتية الدافعة للمغول ، اذ اسهم أولاده واحفاده اثناء حياته في مواصلة هذه الحركة .
فقسم جنكيز خان بينهم الممالك فجعل لأكبر أولاده دوش خان مملكة تمتد من أطراف خوارزم الى أقصى بلاد ساقسين وبلغار المتاخمة لأطراف الإمبراطورية البيزنطية ، ويقع في سلطانها الترك والقبجاق وطوائف من الجركس والروس والاص ، وبينها وبين اذربيجان باب الحديد والدربند ، وعاصمتها صراى على نهر الفولجا ، وهي الذهبية نسبة الى اللون الغالب على خيام معسكراتهم ، المملكة التي صارت معروفة فيما بعد باسم القبيلة ، أما جعتاي ابن جنگیز خان فحكم بلاد اويغور وما وراء النهر من سمرقند و بخارى وعاصمتها قراقورم . وشملت مملكة تولى خراسان وولايات العجم والعراق وهي التي اضيفت اليها فيما بعد اذربيجان والروم والجزيرة وعاصمتها تبريز ، وصارت معروفة بالايلخانية الفارسية .
وصفوة القول أن التتار استمروا في زحفهم في الاراضي الاسلامية بعد وفاة جنكيز خان ، فأوغل باطو بن دوش خان في اذربيجان حتى ازال الدولة الخوارزمية ، وغدا جلال الدین خوارزم شاه شریدا في البلاد حتى وقع في ايدي المغول فقتلوه سنة ٦٢٨ في قرية من اعمال ميافارقين ، فتفرق جنده من الخوارزمية وساءت احوالهم ، وقصد فريق منهم بلاد سلاجقة الروم فاستخدمهم السلطان علاء الدين كبقباذ السلجوقي الى ان مات سنة ٦٣٤ هـ ( ١٢٣٦ ) .
ولم يدر كثير من المسلمين وقتذاك ما سوف يأتي بعد ذلك فدخلت جماعة مثلا على الملك الاشرف موسى صاحب دمشق فهناوه بموت عدوه خوارزم شاه فقال ( والله لتكونن هذه الكسرة سببا لدخول التتار الى بلاد الاسلام ، اي ان انهيار المقاومة الخوارزمية العنيدة ايذان بقرب الخطر المغولي على جوف البلاد الاسلامية .
فاستولى باطو بن دوش خان على بلاد العجم كلها سنة ٦٢٩ هـ ، وباتت دويلات الايوبيين في الجزيرة وحران قاب قوسين من الخطر المغولي ، فخرج الكامل سلطان مصر من دمشق الى ديار بكر بعد ان اجتمع باخيه الاشرف واتفق معه على دفع التتار . وفي سنة ٦٣٣ هـ جاء الخبر الى الكامل بان فرقة من التتار قطعت دجلة في مائة طلب كل طلب خمسمائة فارس ، ووصلت الى سنجار فخرج اليها ابن مهاجر امير سنجار فقتلوه ، واستنجد بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل بالكامل ، فاوقف الحرب السلاجقة بالروم ، وعاد الى دمشق وارسل ابنه الصالح ايوب لدفع التيار المغولي الداهم ، فسار بجماعته واهله واولاده بعد ان عينه ابوه واليا على بلاد الشرق .
وجعله ولي عهده في سلطنته ، فتسلم الصالح سنة ٦٣٤ هـ حصن كيفا ودخل في حكمه حران والرها وسروج والرقة ورأس العين وآمد . واستخدم الخوارزمية في هذه السنة وعددهم اثنا عشر الف مارس بعد ان ساءت معاملة السلطان غياث الدين كيخسرو السلجوقي لهم ، وهربوا من بلاده ونهبوا ما قدروا عليه وعبروا الفرات ، وكتب الصالح الى والده الملك الكامل يستأذنه في استخدامهم عنده ، فاذن له في ذلك ، وتقوى بهم ، واقطعهم مواضع بالبلاد الجزرية ، غير ان الخوارزمية طمعوا في الصالح ومالوا الى نهب البلاد التي صارت اقطاعا لهم ، وخرجوا على طاعته وهموا بالقبض عليه فهرب الى سنجار ، ولم يكتفوا بذلك بل هاجموا بدر الدين بن لؤلؤ صاحب الموصل، ولم ينجه من الوقوع في ايديهم الا الهرب من وجههم . على ان الصالح ايوب استطاع استمالتهم فيما بعد ، واقطعهم سنجار وحران والرها فقاموا في خدمة ابنه الملك المغيث ، وساروا معه الى سنجار واستخلصوها من جند لؤلؤ صاحب الموصل ، كما سيرهم آمد فطردوا السلاجقة عنها •
ثم اصهر الصالح اليهم ، اذ تزوج مقدمهم حسام الدين بركة خان من اخت الصالح من أمه ، الى لكن الخوارزمية عادوا الى نهب البلاد شمال الشام ، واخذوا يعلنون لأهل حلب وحمص ودمشق انهم يفعلون ما يفعلون لخدمة صاحب مصر ، وذلك لان ملوك هذه البلاد اعداء له . نداء له . ومع ان صاحب حمص استطاع هزيمتهم ومطاردتهم لم يكف الخوارزمية عن النهب والسلب حتى هجموا الصليبيين سنة ١٢٤٤ على مدينة بيت المقدس واخذوها .
وواصلوا سيرهم نحو غزة في طريقهم الى مصر، وفي غزة أرسل الخوارزمية الى السلطان يطلبون إليه الإذن في دخول الأراضي المصرية، فأمرهم بالإقامة في غزة ووعدهم ببلاد الشام فضلا عما بيدهم من البلاد الفراتية، وارسل اليهم الخلع والخيل والاموال في سبيل ايقافهم خارج الاطراف المصرية ، ثم جهز السلطان الصالح أيوب عسكرا بقيادة بيبرس لمحاربتهم هو وأحد مماليكه الإخصاء ، فانحاز إليهم عند غزة . ولم يجد السلطان بدا من التحالف مع صاحب حمص سنة ٦٤٤ . واستطاع ان يهزم الخوارزمية ويقتل مقدمهم، فانحاز بعضهم الى التتار ، ووقع مملوكه القديم بيبرس في يده فامر بحبسه ، واثناء هذه الاضطرابات بالممتلكات الايوبية بالشام نفذ التتار الى بلاد السلاجقة بالروم ، فصالحهم الملك غياث الدين بن علاء الدين بن كيقباذ على ان يدفع اليهم جزية وانتهى الأمر باقامة شحنة من التتار في بلاده بعد وفاته سنة ٦٥٤ .
ثم مات السلطان الصالح ايوب سنة ٦٤٧ قبل ان يتمكن من طرد الفرنسيين الذين استولوا على دمياث ، فقام بتدبير الجيش كبار قواده من المماليك بمشورة زوجه شجر الدر ، حتى وصل ابنه توران شاه من حصن كيفا بديار بكر عر وانتصر توران شاه على الفرنسيين سنة ٦٤٨ بفضل جهود المماليك البحرية غير انه أساء سياسته مع الماليك ، فاعرض عن مماليك ابيه واهمل الأمراء والاكابر اهل الحل والعقد ، وقدم الأرذال فضلا عن انهماكه في الملذات، فنفرت قلوب المماليك واتفقوا علی قتله فضر به بيبرس بالسيف سنة ٦٤٨ اثناء وليمة اقامهالهم ، واصبح المماليك اصحاب السلطة الفعلية في البلاد ووقع الاختيار على شجر الدر للقيام على دست السلطنة ، فباشرت سلطتها استنادا على أمومتها لابن متوفي من ابناء السلطان الصالح ايوب واعتمادا على تأييد المماليك الصالحية لهها غير ان المسلمين لم يألفوا ان يتولى امرهم امرأة ، فضلا عن حرص الايوبيين على عدم ترك مصر تفلت من ايديهم ، فأقام المماليك اميرا منهم ، وهو ايبك التركمان ، في منصب السلطنة ، لما اشتهر به بينهم من التدين والكرم وجودة الرأي ، بعد أن تزوج من شجر الدر فتحرك الايوبيون لاستعادة مصر ، واستولى الناصر صلاح الدین صاحب حلب على دمشق التابعة لمصر ، وعزم على ان يزحف منها الى الاراضي المصرية ، ورأى المماليك ان يحولوا دون تحقيق غرضه فولوا طفلا من الايوبيين اسمه موسى حفيد السلطان الكامل ، فيكون الى جانب أيبك .
وظلت شجر الدر هي التي تسيطر على امور البلاد على حين انحاز فريق من المماليك الى المغيث عمر بن العادل بن الكامل بالكرك ونادوا به سلطانا على مصر . عند ذلك اعلن ايبك انه يتولى حكم مصر نيابة عن الخليفة العباسي ، وأرسل اقطاى لانقاذ غزة التي حاصرها زعماء المماليك الذين انحازوا الى المغيث عمر ، وفي الوقت نفسه أوهم ايبك الناس في مصر بانه يخدم الاسرة الايوبية ، واقام احتفالا هائلا عند نقل جثة الصالح ايوب من قلعة الروضة الى الضريح الذي شيدته له شجر الدر بين القصرين بجوار المدرسة الصالحية .
اما الناصر فتقدم حتى دخل الاراضى المصرية . وطارت الاخبار الى القاهرة بانتصاره وأعد الناس انفسهم لاستقباله والترحيب به ، غير ان وقعة العباسة التي حدثت سنة ٦٥٢ بين الناصر وعسكره وبين ايبك واقطاي وعسكرهم من المماليك والعرب انتهت بانتصار ايبك لانحياز المماليك الذين في جانب الناصر اليه ووقع في اسر ايبك كثير مــــن الامراء الايوبيين ومن بينهم الصالح اسماعيل الذي انضم الى عمه الناصر يوسف بعد استيلائه على دمشق ، وتبع هذا الانتصار ان ارسل ايبك جيشا لاسترجاع غزة وفلسطين وخلع الاشرف موسى وبعث به الى القسطنطينية سنة ٦٥٣ ، غير ان الخليفة المستعصم تدخل للإصلاح بين الفريقين المتحاربين في الشام ومصر ، وتقررت قواعد الصلح بينهم على ان تبسط مصر سلطانها على ما يقع غرب نهر الاردن من اراضي فلسطين بما في ذلك بيت المقدس والساحل ، وتجددت هذه المعاهدة سنة ٦٥٤ ، اذ طرد الناصر المماليك الذين لجأوا اليه فرارا من ايبك ، فأمن بذلك جانب الأيوبيين في الشام . والسر في إقدام الخليفة على القيام بهذا العمل هو ما لاح له من خطر التتار ، اذ جاءوا سنــة ٦٥٠ الى الجزيرة، ونهبوا ديار بكر وميافارقين ورأس العين وسروج وخلاط وقتلوا الشيوخ والعجائز وسبوا الصبيان واستحيوا النساء وساقوهم الى معسكراتهم . وتواترت الاخبار سنة ٦٥٤ بزحف هولاكو في اذربيجان نحو بلاد الشام • على ان هذه التدابير الخليفية لم تحل دون وقوع الكارثة العظمى ، وهي استيلاء هولاكو على بغداد سنة ٦٥٦هـ .
وواصل هولاكو سيره بعد ذلك شمالا فاستولى سنة ٦٥٧ على حلب فانهارت المقاومة الايوبية امامه ولم تلبث دمشق ان سقطت في يد التتار سنة ٦٥٨ ، ثم تقدمت فرقة تتارية الى غزة في طريقها الى مصر، وسلطانها وقتذاك صبي هو علي بن ايبك ، فاستغل اتابكه قطز الموقف للوصول الى السلطنة ، ورضي به الامراء الكبار سلطانا ولقبوه المظفر . وخرج قطز من مصر لطرد التتار ، واستطاع ان يحصل على اذن من الصليبيين بالعبور على بلادهم ، حتى بلغت الفرقة التتارية بقيادة كتبغانوين عند عين جالوت في رمضان سنة ٦٥٨ هـ ، وباشر قطز القتال بنفسه فانكسر التتار بعد ان قتل مقدمهم كتبغانوين ، غير انه حدث اثناء عودة قطز الى الديار المصرية ان اغتاله بيبرس البندقدادی ، فاختاره المماليك سلطانا عليهم لاحقا.
وكان لانتصار المماليك على التتار في عين جالوت اهمية كبرى ، اذ ان التنار لهم يهزموا من قبل كما هزموا في عين جالوت . وعلى الرغم من اغاراتهم الكثيرة على بلاد الشام فيما بعد ، فان الهزائم بهم وصاروا يلتمسون الصلح وتحسين العلاقات بينهم وبين المماليك ، وعجلت هذه الوقعة بزوال الامارات الصليبية في الشام ، كما دفعت التتار الذين حلوا بغربي آسيا الى اعتناق الدين الاسلامی، فتحول بركة خان ملك القبيلة الذهبية الى الإسلام ، واعلن عداءه للابلخانات في ايران : ، و توطدت الصداقة بينه وبين بيبرس .
ولم يعد في استطاعة الامراء الايوبيين بالشام منازعة المماليك السلطان، اذ استولى السلطان بيبرس على اماراتهم ولم تبق في ايديهم منها إلا حماه التي دخلت في طاعة المماليك سنة ٧٤٦ هـ ، وتحالف السلطان بيبرس مع كيخسرو سلطان السلاجقة بالروم الذين وقعوا تحت حكم المغول . وعلى الرغم من المغول على البيرة ومخاضات الفرات ، وتوغلهم في الشام حتى افاميا ، فان بيبرس خرب هذه الاطراف الشمالية من ممتلكاته اعداؤه المؤن والعلف ، ومن ثم قل تهديد التتار لهذه استمرار هجوم حتى لا يجد الجهات ، ولم يغب عن بال بيبرس خطورة العلاقات الودية بين إيلخانات إیران وبين الأمراء الصليبيين في الشام ، ولا سيما بوهمند السادس أمیر انطاكية وطرابلس ، فاخذ في مهادنة التتار بأراضي السلاجقة بالروم ، ثم واصل مهاجمة الممتلكات الصليبية باستمرار في سنة ٦٦١ (١٢٦١م) حتى سنة ٦٧٦ (۱۲۷۷م) فاستولى على قيسارية وارسوف وخربهما ، ثم استولى على عرقه وصفد وقضى على اصحابها من الداوية ، ، ثم اغار على ارمينية الصغرى وقليقية حتى بلغ طرسوس وصالح ملكها هيثوم Hethoum على شرط التنازل عن دريساك ، كما استولى بيبرس يافا وشقيف عرنون ، وتوج أعماله بالاستيلاء على انطاكية سنة ١٢٦٨م وترتب على سقوط انطاكية انهيار الروح المعنوية في الصليبيين ، فاستسلم حصن الاكراد وسقط حصن مرقب ، وحرص هيو الثالث ملك قبرص وبيت المقدس على ان يحصل سنة ٦٦٦ (۱۲۷۲) على معاهدة عدم اعتداء لمدة عشرة سنوات .
هكذا زال الخطر الصليبي كما زال الخطر التتاري على البلاد المملوكية في الشام ، واخذت دولة سلاطين المماليك تستقر في مصر . ومما زاد في استقرار الامور في كل من مصر والشام ، نجاح بيبرس في التخلص من طائفة الاسماعيلية والاستيلاء على معاقلها في المنيقة والقدموس والكهف ، وهى الطائفة التى استغلها الصليبيون ضد المسلمين . وتوفى بيبرس سنة ٦٧٦ هـ بعد ان اصطدم بكل من الصليبيين والتتار وملك ارمينية الصغرى مرة اخرى ، ودلت انتصاراته على مدى توفيقه في توطيد دعائم دولة المماليك ، كما دلت اغاراته على آسيا الصغرى حتى قيصرية الروم عاصمة السلاجقة بان هذه الدولة المملوكية جاءت لتبقى على مسرح التاريخ في الشرق الأوسط .
0 التعليقات :
إرسال تعليق