للتحميل PDF | بيتر فرانكوبان : طريق الحرير تاريخ جديد للعالم ، ترجمة د. أحمد العدوي ، دار أدب للنشر والتوزيع ، الطبعة الأولى ، الرياض 2022.
عدد الصفحات : 664
نبذة عن المؤلف:
بیتر فرانکوبان (PETER FRANKOPAN) هو أستاذ التاريخ العالمي في جامعة أكسفورد. وهو يشغل أيضًا منصب كبير الباحثين في كلية ورسيستر (Worcester) College في الجامعة نفسها. نشر ترجمته المنقحة لكتاب الألكسياد The Alexiad لـ أنا كومنين (Anna Komnene) في عام ۰۹۲۰ ، ثم نشر كتاب The First Crusade الحملة الصليبية الأولى في عام ۲۰۱۲م.
مقدمة المؤلف:
كان لدي - وأنا إذ ذاك طفل - خريطة كبيرة للعالم، وكانت أثمن مقتنياتي. وكانت تلك الخريطة معلقة على الجدار بجوار سريري، وكنت أحدق فيها كل ليلة قبل أن أخلد إلى النوم. ومن ثم حفظت أسماء جميع البلدان ومواقعها - قبل مدة طويلة - بما في ذلك أسماء عواصمها، إضافة إلى أسماء المحيطات، والبحار والأنهار التي تدفقت عبرها ؛ وكذلك أسماء سلاسل الجبال والصحاري الرئيسة المفعمة بروح المغامرة والخطر، والتي كتبت بخط مائل عجول. ولما أصبحت صبيا، كنت أشعر بالتشوش حيال التركيز الجغرافي الضيق الملح لدروسي التي تلقيتها في المدرسة؛ حيث ركزت على غربي أوروبا والولايات المتحدة فحسب، ونبذت معظم أرجاء العالم ظهريا. لقد درسنا تاريخ الرومان في بريطانيا، والغزو النورماندي عام ١٠٦٦م، وهنري الثامن Henry Vill) و آل تيودور (Tudors)، وحرب الاستقلال الأمريكية، والثورة الصناعية الفيكتورية ومعركة السوم (battle of the Somme)، وقيام ألمانيا النازية وسقوطها. فلما كنت أنظر إلى خريطتي كنت أرى مناطق شاسعة من العالم جرى تجاوزها في صمت.
ثم اتفق أن أهداني أبواي - في ذكرى مولدي الرابعة عشرة - كتابا للأنثروبولوجي إريك وولف (Eric Wolf)، وهو الكتاب الذي أشعل جذوة الحماسة في نفسي حقا. كتب وولف قائلا : إن تاريخ الحضارة المقبول والخمول هو التاريخ الذي يقضي بأن روما انبثقت عن اليونان القديمة، وأن أوروبا النصرانية انبثقت عن روما، وأن عصر النهضة انبثق عن أوروبا النصرانية، وأن عصر التنوير انبثق عن عصر النهضة، فأثمر ديمقراطية التنوير السياسية، التي أثمرت بدورها الثورة الصناعية. ولما تقاطعت الصناعة مع الديمقراطية ولدت الولايات المتحدة، وعلى هذا النحو تجسد الحق في الحياة، والحرية، والسعي خلف السعادة .
ثم ما لبثت أن أدركت أن شعار الانتصار السياسي والثقافي والأخلاقي للغرب هو المغزى من هذه الرواية التي أخبرتها، على وجه الدقة. بيد أن هذه الرواية معيبة ابتداء؛ إذ إن هناك طرق بديلة للنظر إلى التاريخ، تخلو من النظر إلى الماضي بأعين الظافرين في التاريخ الحديث. كنت مشغوفًا لم أزل، وقد تبين لي فجأة أن المناطق التي لا نعلم عنها شيئا قد سقطت مختنقة تحت وطأة الإصرار على رواية ظهور أوروبا. وهكذا توسلت إلى أبواي ليأخذاني لرؤية خريطة هير فورد موندي» (Hereford Mappa Mundi) التي جعلت من القدس مركزا وبؤرة لها، ونحت إنجلترا إضافة إلى دول غربية أخرى جانبًا، كسقط المتاع. ثم ما لبثت أن قرأت عن الجغرافيين العرب الذين الحقوا مخططات بمصنفاتهم، بدت لي مقلوبة؛ حيث وضع بحر قزوين في مركزها. كما أصابتني الدهشة أيضًا عندما اكتشفت خريطة تركية مهمة من القرون الوسطى في إستانبول، وكان في القلب منها مدينة تدعى بلا ساغون ! لم أكن قد سمعت قط باسم هذه المدينة من قبل، فضلا عن أنها لم تظهر على أية خريطة أخرى قط، بل إن موقعها ذاته لم يكن مؤكدًا حتى وقت قريب، ومع ذلك فقد كانت تعد - يوما ما - مركزا للعالم !). كنت أود لو اطلعت على المزيد من أحوال روسيا، وآسيا الوسطى، وبلاد فارس، وبلاد الرافدين. كما أردت أن أقف على أصول الديانة النصرانية عند النظر إليها من آسيا. وأردت أيضا الوقوف على الكيفية التي نظر بها الصليبيون لأولئك الذين عاشوا في المدن الكبرى، مثل: القسطنطينية، والقدس وبغداد، والقاهرة في القرون الوسطى. وأردت كذلك التعرف على الإمبراطوريات الكبرى في الشرق، مثل المغول وفتوحاتهم على سبيل المثال.
فضلا عن ذلك أردت أن أفهم كيف بدت الحربان العالميتان عند النظر إليهما من أفغانستان والهند، لا من فلاندرز (Flanders) أو من الجبهة الشرقية. وكان من حسن حظي أن درست اللغة الروسية في المدرسة؛ حيث در سنيها ديك هادون Dick) (Haddon، وهو رجل مرموق، كان قد خدم في الاستخبارات البحرية. وكان هادون يؤمن أن طريقة فهم اللغة الروسية والدوشا (dusha) ، أو الروح (Soul) () ، لا يتأتى إلا من خلال استيعاب أدبها الرائع. وموسيقاها الريفية. وكنت أسعد حظًّا لما عرض علينا أن يدرسنا اللغة العربية، وهكذا جعل الرجل ستة منا يلمون بالثقافة والتاريخ الإسلاميين، كما غمرنا في لُجَّة جمال العربية الفصحى. وهكذا فتحت هذه اللغات أمامنا عالما بكرًا كان ينتظر من يستكشفه، أو بالأحرى أن يعيد بنو جلدتنا في الغرب اكتشافه كما ما لبثت أن أدركت ذلك.
***
يولي المعاصرون - في يومنا الراهن - قدرًا كبيرًا من الاهتمام لتقييم التأثير المحتمل للنمو الاقتصادي السريع في الصين، حيث يتوقع أن يتضاعف طلب الصينيين على السلع الكمالية أربع مرات خلال العقد المقبل. كما يولون القدر نفسه من الاهتمام لتقييم التغيير الاجتماعي الحاصل في الهند، حيث ينمو عدد الأشخاص الذين يسعهم اقتناء الهواتف النقالة، متفوقاً على عدد أولئك الذين يتمتعون بمرافق الصرف الصحي .
ومع ذلك لا يقدم كلا الفريقين أفضل منظور لمعاينة ماضي العالم وحاضره. فالحق أن المنطقة الواقعة بين الشرق والغرب التي ربطت أوروبا بالمحيط الهادئ، كانت المحور الذي دارت حوله الكرة الأرضية منذ آلاف السنين. تمتد نقطة منتصف الطريق بين الشرق والغرب - على نطاق واسع - من السواحل الشرقية للبحر المتوسط، والبحر الأسود، حتى جبال الهيمالايا، وقد تبدو هذه البقعة موقعًا موفقا يمكن من خلاله تقييم العالم.
وهذه البقعة الآن هي موطن للدول التي تثير في نفوس الغربيين كل ما هو غريب وهامشي، مثل: كازاخستان، وأوزبكستان، وقيرغيزستان و تركمانستان و طاجيكستان، إضافة إلى دول القوقاز. إنها منطقة تضم أنظمة قلقة، وعنيفة، وتشكل تهديدا للأمن الدولي، مثل: أفغانستان وإيران، والعراق، وسوريا، كما أنها تضم في الوقت نفسه دولا خبرت أفضل الممارسات الديمقراطية، مثل: روسيا وأذربيجان. ويبدو أن هذه المنطقة - بصفة عامة - موطن السلسلة من الدول المتخلفة أو الفاشلة، يقودها زعماء ديكتاتوريين فازوا بأغلبية كبيرة - يستحيل تحقيقها - في الانتخابات الوطنية، وتتحكم أسرهم وأصدقاؤهم في المصالح التجارية المترامية الأطراف، ويمتلكون أصولا ضخمة ويمارسون السياسة السلطوية. وهي بلدان ذات سجلات سيئة في مجال حقوق الإنسان، حيث حرية التعبير عن مسائل مثل : العقيدة، والوجدان، والجنس محدودة، وحيث تسيطر السلطة على وسائل الإعلام، فتملي على الصحافة ما يُنشر، وما لا ينبغي أن يُنشر "). وعلى الرغم من أن مثل هذه البلدان قد تبدو بدائية بالنسبة إلينا، فإنها ليست مناطق منعزلة، كما أنها ليست أراض قاحلة غامضة؛ فالحق أن الجسر الرابط بين الشرق والغرب إنما هو تقاطع طرق الحضارة. وبعيدا عن كونها على هامش الشؤون العالمية، فإن هذه البلدان تقع في القلب من تلك الشؤون، كما كانت كذلك منذ فجر التاريخ. فهناك ولدت الحضارة، حيث يعتقد كثير من الناس أن البشر قد خلقوا في جنة عدن» التي غرسها الرَّبُّ الإله وفيها كُلَّ شَجَرَةٍ شَهِيَّةٍ لِلنَّظَرِ وجَيْدَة للأكل، ويُعتقد كثير من الناس أن تلك الجنة إنما كانت تقع في الحقول الغنية المحصورة بين نهري دجلة والفرات .
أُنشئت - في هذا الجسر الرابط بين الشرق والغرب - مدن كبرى منذ ما يقرب من خمسة آلاف عام، حيث كانت مدن ها را با (Harappa) وموهينجو - دارو Mohenjo-daro) - الواقعتان في وادي نهر السند من عجائب العالم القديم، وكان عدد سكانهما يناهز عشرات الآلاف. واتصلت الشوارع فيها بنظام متطور للصرف الصحي، لم تتمكن أوروبا من منافسته لآلاف السنين. واشتهرت المراكز الحضارية العظيمة الأخرى مثل: بابل، ونينوى، وأوروك، وأكاد في بلاد الرافدين بعظمتها وابتكارها في مجال العمارة. وفي تلك الأثناء أشار أحد الجغرافيين الصينيين - قبل أكثر من ألفي عام - إلى أن سكان باكتريا، المقيمون حول نهر جيحون (Oxus) - أي شمالي أفغانستان الآن مفاوضون وتجار أسطوريون. وكانت عاصمتها - أعني باكتريا - موطنا لسوق ابتيعت منه مجموعة كبيرة من المنتجات كما حملت إليه كذلك من كل حدب وصوب. تلكم البقاع هي المكان الذي انتشرت فيه الأديان الكبرى في العالم، حيث نافست اليهودية والنصرانية، والإسلام، والبوذية، والهندوسية بعضها بعضا . كما كانت بمثابة المرجل؛ حيث تنافست المجموعات اللغوية ثمة، فغدا المتحدثون باللغات الهندو - أوروبية، والسامية، والصينية، والتبتية والألتية (Altaic)، والتركية، والقوقازية، وراحوا.
لقد كانت تلك البقاع هي المكان الذي نشأت فيه الإمبراطوريات العظمى وسقطت، وحيث سرى الشعور بآثار الصدامات بين الثقافات والمتنافسين على بعد آلاف الأميال من أماكن وقوعها. ويفتح التوقف هنا طرقًا جديدة لعرض الماضي، فيظهر عالما كان مترابطا أشد الترابط، حيث كان لحدث يقع في قارة ما تأثير على قارة أخرى، حيث يمكن الشعور بآثار الصدمات التي وقعت في سهوب آسيا الوسطى في شمال إفريقيا، وحيث ترددت أصداء الحوادث التي وقعت في بغداد في إسكندنافيا، وحيث أدت الكشوف الجغرافية في الأمريكتين إلى تغيير أسعار السلع في الصين، كما أدت إلى زيادة الطلب على الخيول في أسواق شمال الهند. تردد صدى هذه الارتجاجات على طول شبكة انتشرت في كل حدب وصوب، فكانت الطرق التي سافر من خلالها الحجاج، والمقاتلة، والبدو، والتجار، وابتيعت البضائع والمنتجات وبيعت كذلك، وحيث جرى تبادل الأفكار وتكييفها وصقلها. ولم تحمل تلك الشبكة الازدهار فحسب، بل حملت الموت، والعنف، والمرض، والجوائح أيضًا. وسمى عالم جيولوجي ألماني بارز - في أواخر القرن التاسع عشر - هو فردیناند فون ريشتهوفن (Ferdinand von Richthofen) (وهو «عم» الحرب العالمية الأولى، وهو أيضًا الطيار البطل الملقب بـ «البارون الأحمر Red Baron شبكة الاتصالات المترامية الأطراف هذه طرق الحرير Seidenstraßen وهو الاسم الذي ظل علمًا عليها منذ ذلك الحين.
عملت هذه المسارات بوصفها جهازا عصبيا مركزيا في العالم، ومن ثم ربط هذا الجهاز الأشخاص والأماكن معا، إلا أنه اختبأ تحت الجلد، فلم ير بالعين المجردة، ومتى فهمنا هذه الروابط، أدركنا كيفية عمل العالم، تماما كما يشرح علم التشريح الكيفية التي يعمل بها الجسم. وعلى الرغم من أهمية هذا الجزء من العالم، فإن التيار السائد في التاريخ قد تناساه. ويرجع ذلك جزئيا إلى ما يسمى بـ «الاستشراق Orientalism - الذي حمل رؤية مغرقة في السلبية للشرق، فصوره على أنه متخلف وأدنى من الغرب ومن ثم لا يستحق الدراسة الجادة (١). ومع ذلك ينبع ذلك التناسي أيضًا من حقيقة أن رواية الماضي قد أضحت مهيمنة وراسخة، حتى إنها لم تدع مكانا لمنطقة كان يُنظر إليها - ولم يزل ينظر إليها كذلك على أنها هامشية في قصة ظهور أوروبا والمجتمع الغربي. اليوم، أضحت جلال آباد وهرات في أفغانستان، والفلوجة والموصل في العراق، وحمص وحلب في سوريا مرادفا للأصولية الدينية، والعنف الطائفي. شدما جرفت أمواج الحاضر الماضي بعيدا! لقد ولت تلك الأيام التي كان اسم كابول يستحضر صورًا للحدائق التي زرعها بابر الأكبر - مؤسس إمبراطورية المغول في الهند - ورعاها . لقد اشتملت باغي - وفا ( Bagh-i-Wafa) (أي حديقة الإخلاص) على مسبح أحيط بأشجار البرتقال والرمان والمروج التي طالما افتخر بها بابر الفخر كله، فنقل عنه قوله: «إن هذه البقعة هي أفضل ما في الحديقة، وهي أجمل ما تكون عندما تنضج ثمار البرتقال. الله ما أروع موقع هذه الحديقة ! » .
وعلى المنوال نفسه، تحجب الانطباعات الحديثة عن إيران أمجاد تاريخها السحيق عندما كانت سلفها - أعني بلاد فارس - مثالاً يُضرب على الذوق الرفيع في كل شيء، من الفاكهة التي تقدم على العشاء، إلى المنمنمات المذهلة التي رسمها فنانون أسطوريون، إلى الورقة التي خط عليها العلماء خطوطهم. ويُعد المصنف الرائع الذي وضعه سيمي النيسابوري - وكان خازنا لمكتبة مشهد الواقعة شرقي إيران نحو عام ٨٠٢ هـ / ١٤٠٠م - وسجل فيه - بتفصيل دقيق - نصيحة عاشق للكتب أسداها لمن شاركه الشغف بها. فقد نصح مخلصًا من يفكر في الكتابة، بأن يعلم أن أفضل ورقة صنعت للخطاطة إما صنعت في دمشق، أو في بغداد، أو في سمرقند. وليعلم أيضًا أن الورق المصنوع في غير هذه الأماكن خشن بصفة عامة، ومبقع، وسريع التحلل. ثم استطرد محذرًا: اعلم أنه يحسن أن يُصبغ الورق بصبغة خفيفة قبل أن يُخط عليه بالمداد؛ ذلك أن اللون الأبيض تمجه العيون، وأن أروع نماذج الخط المعروفة كتبت كلها على ورق مصبوغ (۱). سادت الأماكن - التي نسينا أسماءها جميعا الآن - الدنيا يوما ما، مثل: مرو، التي وصفها أحد الجغرافيين في القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي بأنها: «قصبة نفيسة، طيبة، ظريفة، بهية، رحبة، خفيفة» و«أم القرى؟ وكذلك الري - على مقربة من طهران الحديثة - التي كانت بالنسبة لكاتب معاصر آخر من أجل المدن بحيث يمكن عدها عروس الدُّنيا»، و«أحسن الأرض مخلوقة ).
لقد تناثرت هذه المدن كاللؤلؤ المنظوم عبر العمود الفقري لآسيا، وربطت المحيط الهادئ بالبحر المتوسط. وحفزت المراكز الحضرية بعضها بعضا، وذلك من خلال التنافس بين الحكام والنخب، الأمر الذي أدى إلى المزيد من العمارة الطموح والنصب الأثرية وانتشرت المكتبات، ودور العبادة والكنائس، والمراصد على نطاق هائل، وانتشر تأثيرها الثقافي في المنطقة؛ فاتصلت القسطنطينية بدمشق، وأصفهان، وسمرقند، وكابول، وكاشغر، وأصبحت مثل هذه المدن موطنا لعلماء كبار اجتهدوا في توسيع آفاق العلوم التي درسوها. وتبدو أسماء حفنة منهم مألوفة لنا اليوم فحسب، مثل: ابن سینا المعروف لدينا باسم (Avicenna)، والبيروني، والخوارزمي ، الذين كانوا أساطين في علوم الفلك والطب، ومع ذلك فقد وجد هناك كثيرون غيرهم. ولم تكن المراكز الفكرية المتميزة في العالم، مثل تلك التي: في أكسفورد (Oxford) و كامبريدج (Cambridge)، وهارفارد (Harvard)، ويل (Yale)، موجودة في أوروبا أو الغرب آنذاك، بل وجدت في بغداد، وبلخ، وبخاری، وسمر قند لقرون قبل مستهل العصر الحديث.
وكان هناك سبب وجيه لتطور الثقافات، والمدن والشعوب التي عاشت على طول طرق الحرير وتقدمها: فبينا كانت تلك الشعوب تتاجر، تبادلت الأفكار، وتعلمت، وأخذ بعضها عن بعضها الآخر، الأمر الذي أدى إلى مزيد من التقدم في الفلسفة والعلوم، واللغة، والدين. وكان التقدم ضروريا، كما أحاط أحد حكام مملكة تشاو (Zhao) الواقعة في أحد أطراف آسيا شمالي شرق الصين قبل أكثر من ٢٠٠٠ عام علما، فقد قال الملك وو - لينج Wu-ling في عام ٣٠٧ ق.م: إن ملكة اقتفاء آثار السلف لا تكفي لتحسين العالم في الحاضر (۱).
لقد كان القادة في الماضي يدركون أهمية مواكبة العصر. غير أن عباءة التقدم سرعان ما غيرت الكتف الذي انسدلت عليه في أوائل العصر الحديث، وذلك نتيجة لبعثتين بحريتين عظيمتين أبحرتا في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، ووضعنا الأسس لإحداث اضطراب كبير في إيقاع أنظمة التبادل التجاري الراسخة في غضون ست سنوات فحسب، في العقد الأخير من القرن الخامس عشر الميلادي. فأولا، عبر كريستوفر كولومبوس Christopher (Columbus المحيط الأطلسي، الأمر الذي مهد الطريق أمام كتلتين كبيرتين من اليابسة - لم تطأهما قدم أحد حتى ذلك التاريخ - للاتصال بأوروبا وما وراءها. ثم لم تكد تمض سنيات، حتى نجح فاسكو دا جاما (Vasco da Gama) في الإبحار عبر الطرف الجنوبي من إفريقيا إلى الهند، ففتح برحلته هذه طرقا بحرية جديدة. وعلى هذا النحو غيرت الكشوف الجغرافية أنماط التفاعل والتجارة، وأحدثت تغييرا ملحوظا في مركز الثقل السياسي والاقتصادي في العالم؛ فقد تحولت أوروبا الغربية - بغتة - من موقعها بوصفها إقليما منعزلاً إلى نقطة ارتكاز لاتصالات مترامية الأطراف، ونظام نقل وتجارة. وعلى هذا النحو أضحت أوروبا المركز الجديد بين الشرق والغرب بضربة واحدة. وأشعل ظهور أوروبا معركة شرسة على القوة، وكذلك على التحكم في الماضي.
فلما انبرى الخصوم يجادل بعضهم بعضا، أعيد تشكيل التاريخ للتأكيد على الحوادث، والموضوعات، والأفكار التي قد تستخدم في الصراعات الأيديولوجية التي اندلعت على هامش الصراع على الموارد والسيطرة على الممرات البحرية. وهكذا صنعت التماثيل النصفية لكبار السياسيين والقادة وهم يرتدون التوجا (Togas) لجعلهم يبدون وكأنهم أبطال رومانيون من الماضي؛ كما شيدت المباني الجديدة الرائعة بأسلوب كلاسكي إلى حد كسر استولى على أمجاد العالم القديم، فبدا وكأنه تراث أجدادهم المباشرين. لقد حرف التاريخ واستغل لخلق رواية أصرت على أن ظهور الغرب لم يكن أمرا طبيعيا وحتميا فحسب، بل كان استمرارًا لما حدث في الماضي من قبل. *** حملني عدد كبير من القصص على النظر إلى ماضي العالم بطريقة مختلفة. لكن إحدى تلك القصص بزت غيرها خاصة تقول الأساطير اليونانية: إن زيوس كبير الآلهة - أطلق عقابين، وأمر كل منهما بالطيران عكس اتجاه الآخر إلى نهاية الأرض. ثم وضع حجرا مقدسا (Omphalos) حيث التقيا، وهو ما عرف بـ اسرة العالم، لتمكين البشر من التواصل مع الإله. ثم علمت بأخرة أن مفهوم هذا الحجر كان - منذ فترة طويلة - مصدرًا لافتتان الفلاسفة وعلماء النفس (۱).
وأذكر أنني كنت أحدق في خريطتي عندما سمعت هذه القصة للمرة الأولى، فتساءلت: ترى، أين يمكن أن يكون هذان العقابان قد التقيا ؟ لقد تخيلتهما يقلعان من شواطئ غرب المحيط الأطلسي وساحل المحيط الهادئ للصين ويتجهان إلى الداخل. وتغير الوضع الدقيق لكليهما، اعتمادا على المكان الذي وضعت فيه أصابعي وشرعت منه في قياس مسافات متساوية بين الشرق والغرب. بيد أن المطاف كان ينتهي بي دائما في بقعة ما بين البحر الأسود وجبال الهيمالايا. وفي الليل كنت أستلقي مستيقظا، أفكر في الخريطة المعلقة على جدار غرفة نومي، وعقابي زيوس، وتاريخ تلك المنطقة التي لا اسم لها، والتي لم تذكر قط في الكتب التي طالعتها. قسم الأوروبيون - بأخرة - آسيا إلى ثلاث المناطق واسعة الشرق الأدنى والشرق الأوسط، والشرق الأقصى. وكلما سمعت أو قرأت عن مشكلات عالم اليوم - بينما كنت أشب عن الطوق - كان يبدو لي أن ثاني هذه المشكلات - أعني الشرق الأوسط - قد تغير في معناه، بل في موقعه أيضًا؛ حيث كان يستخدم للإشارة إلى إسرائيل وفلسطين والبقاع المحيطة بهما تارة، وإلى الخليج العربي تارة أخرى. ولم أستطع أن أفهم سبب الإلحاح المستمر على أذني بشأن أهمية البحر المتوسط بوصفه مهدًا للحضارة، في الوقت الذي بدا واضحا لي أن هذا لم يكن المكان الذي تشكلت فيه الحضارة حقا. إن البوتقة الحقيقية البحر المتوسط بمعناها الحرفي - متى كانت تعني مركز العالم - لم تكن بحرًا يفصل بين أوروبا وشمال إفريقيا، بل كانت قلب آسيا.
إن غاية أملي أن أتمكن من تشجيع غيري على دراسة الشعوب والأماكن التي طالما تجاهلها العلماء لأجيال من خلال طرح أسئلة جديدة، ومجالات بحث جديدة. كما آمل أيضًا أن أطرح أسئلة جديدة حول الماضي، تجرح المسلمات وتعيد التدقيق فيها وفوق ذاك، آمل أن ألهم أولئك الذين يقرؤون هذا الكتاب النظر إلى التاريخ بطريقة مختلفة.
بیتر فرانکوبان كلية ورسيستر (Worcester College)، أكسفورد أبريل ٢٠١٥
الرابط
اضغط هنا
0 التعليقات :
إرسال تعليق