للتحميل PDF | المؤرّخ أبو شامة وكتابه الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية - الدكتور حسين عاصي ، دار الكتب العلمية بيروت ، الطبعة الأولى 1991م.
عدد الصفحات : 289
نبذة عن الكتاب :
شهد وطننا العربي ست حملات صليبية منذ نهاية القرن الحادي عشر الميلادي. ففي عام ۱۰۹٧م ابتدأت أولى هذه الحملات عندما عبر الصليبيون من الشرق والغرب ومن القسطنطينية وتقدموا في آسيا الصغرى، ثم في بلاد الشام. وفي عام ۱۰۹۹ اشبع الغرب مطامعه الإستعمارية تحت ستار الدين والحرب المقدسة واستولى على نفس البقعة التي قامت عليها إسرائيل وزاد عليها بلاد الساحل، وأسسوا لهم أربع إمارات صليبية هي: الرها وأنطاكية وبيت المقدس وطرابلس . وقد مارس الصليبيون الوحشية والغدر في حروبهم وقتلوا كل مسلم صادفوه، وبلغت ضحايا بيت المقدس وحدها السبعين ألف قتيل من المسلمين الذين لجأوا إلى بيت المقدس . وتوالت الحملات الصليبية، واتجهت إلى مصر، وكان أهمها حملة لويس التاسع ملك فرنسا عام ١٢٤٨ . وقد هزم فيها لويس وأسر في مدينة المنصورة، ودفع الفرنسيون فدية له قدرها ثمانمائة ألف قطعة من الذهب. واتجه الصليبيون بعد ذلك إلى تونس وهاجموها ومات فيها لويس ودفن في قرطاجة . وقد بقي الصليبيون في ربوع الشام حوالي مائتي سنة قبل أن يتمكن العرب من طردهم والتخلص من استعمارهم الرهيب . وعندما جاء الإستعمار الصليبي إلى بلادنا، وصفت أوروبا حملاتها بأنها حرب دينية ، اضطرهم إليها تعصب الأتراك السلاجقة واضطهادهم للحجاج الأوروبيين القادمين إلى بيت المقدس وما كان هذا الإدعاء إلا ذريعة ماكرة للغزو، وما كانت الحملات الصليبية في واقع الأمر إلا استعماراً سياسياً واقتصادياً لهذه المنطقة الهامة في العالم. وكان أسرع الناس استجابة لدعوة البابا أربان الثاني للقيام بهذه الحملات هم أمراء الإقطاع في أوروبا بحثاً عن أرض جديدة تصلح للاستغلال بعد أن ضاقت رقعة قارتهم بجشعهم.
وكان الحجاج الأوروبيون يعودون بقصص خيالية عن غنى الشرق . مما حرك شهية الأمراء الأوروبيين إلى السلب والنهب والغنيمة . وقد أشار البابا أربان الثاني إلى تلك الأرض التي تفيض لبناً وعسلا في خطاب دعوته للحروب الصليبية . قالها لملايين الجياع من أرقاء الأرض الأوروبيين الرازحين في أحضان الظلم والفقر في خدمة أمراء الإقطاع. وفي وقت اجتاحت فيه أوروبا المجاعة والحروب. وزاد البابا حين أعلن بأن المشاركة في هذه الحملات نسقط دين المدينين، وتبرىء ذمة المفلسين وتسقط أحكام المحاكم وتغفر الذنوب للقتلة والسفاحين . وطمعت المدن التجارية في أوروبا مثل البندقية وجنوة وبيزا وبرشلونة وفلورنسا في أن تجني الأرباح الهائلة من احتكار التجارة بين الشرق والغرب والسيطرة على الطرق التجارية المارة بالوطن العربي، والقضاء على البحرية العربية الإسلامية التجارية، وذلك عن طريق تحويل الجيوش الأوروبية المتجهة إلى الحرب ونقلها إلى ميادين القتال. واتخذت من هذه الحرب فرصة لتنشيط تجارتها، حتى وإن تعاملت مع الفريقين المتصارعين : العرب والصليبيين، في آن معاً. مما اضطر الكنيسة أن تصدر قراراً يقضي بالحرمان من الغفران فضلا عن مصادرة الأموال والحرية الشخصية لكل من يجرؤ على أن يبيع المسلمين حديداً أو أسلحة أو خشباً لبناء السفن أو يبيعهم قوارب جاهزة أو يدخل في خدمتهم كربان سفينة . لقد احتل الصليبيون معظم بلاد الشام وأقاموا الإمارات الصليبية وحاكوا المؤامرات والدسائس ضد الحكام المسلمين. ووجهوا الحملات المسلحة ضد المدن العربية وقطعوا الطرق وقاموا بعلميات السلب والنهب ما استطاعوا . وكان خطرهم قومياً ودينياً . ذلك أنه موجه ضد الأمة العربية الإسلامية أو الأمة الشرقية بالنسبة للصليبيين. فكان الصليبي يرى في الشرقي ، مسلماً أو مسيحياً عدوه اللدود . كان الخطر يتهدد الأمة العربية والمسلمين. ومن ثم كان من الطبيعي أن يسعوا لتوحيد طاقاتهم وحشد امكانياتهم من أجل النصر، لأن العدو لم يتمكن منها إلا لأنها مفككة ومجزأة. وهذا درس من دروس التاريخ بل لعله اثمن دروس الماضي والحاضر والمستقبل معاً . لقد انفرطت وحدة العرب والمسلمين حين تمكن الأتراك السلاجقة من السيطرة على الخلافة العباسية، وحين استولى الفاطميون على الشمال الافريقي ومصر والشام وأقاموا خلافة تتنافس وتتصارع مع الخلافة العباسية. وكان الحكام يحاربون بعضهم بعضاً ويختلفون لأتفه الأسباب بسبب الدسائس والمؤامرات . بل بلغ الأمر بهم أن أخذوا يستنجدون بالصليبيين ويعقدون معهم الإتفاقات والمعاهدات . لقد جاءت الحملات الصليبية في وقت تفرقت فيه كلمة العرب والمسلمين. ولولا إنقسامهم على أنفسهم وتفككهم السياسي وانشغالهم بالتنافس على السلطة لما تمكن الصليبيون من وطنهم. حقيقة أن المسلمين لم يفتروا لحظة واحدة عن قتال الصليبيين، إلا أن الشجاعة مع تفرق الكلمة لم يفلحا في انتزاع النصر، ولقد وعى العرب والمسلمون هذا الدرس جيداً، وهو أن الوحدة خير سلاح ضد اعداء العروبة والإسلام.
ولولا وجود الرجعيين والمستغلين لاستقام الأمر للعرب على طول التاريخ . مع آل زنكي كانت الصحوة، وكانت وحدة الجبهة الإسلامية ضد الصليبيين. هذه الوحدة التي ترسخت على يد صلاح الدين ربيب نور الدين زنكي وخليفته في حمل رسالته فاجمع العرب والمسلمون على كلمة واحدة سواء وبدأوا زحفهم المقدس على الصليبيين وفي سنة ۱۱۸۷م دخل المسلمون القدس بقيادة صلاح الدين وحرروا المسجد الأقصى. لكن الموت غيب صلاح الدين الأيوبي والخطر الصليبي لا يزال جائماً على صدور العرب والمسلمين، متربصاً بهم الدوائر بعد أن أوشك البناء الشامخ الذي شاده نور الدين وصلاح الدين ان يتهدم ، وأوشكت الوحدة القوية التي جهدا في تكوينها أن ينفصم عراها. فما من خلفاء صلاح الدين كان خليفاً أن تجتمع عليه الكلمة ويفرض هيبته على الجميع، ولم يلبث النزاع والتخاصم أن دب بين الإخوة والأقارب وانصرفت جهودهم إلى المنازعات الأسرية في وقت كان المسلمون أحوج ما يكونون فيه إلى الوحدة لافشال مخططات الصليبيين الذين استغلوا فرصة انشغال الأيوبيين في مشاكلهم الخاصة ليتوسعوا على حسابهم ولينالوا سلماً ما عجزوا عن الحصول عليه بوسائلهم العسكرية. ومن ثم راح الغيارى من المسلمين يستذكرون أيام الجهاد الخوالي ويأمنون أن يمن الله عليهم ويلقي الهداية في قلوب حكامهم فيجمعوا أمرهم ويتوحدوا ويقتفوا سبيل السلف الصالح في حمل راية الجهاد ومن هنا ندرك سر اهتمام أبي شامة بالرجلين ودولتيهما، وهو الذي ولد ولم يكن قد انقضى على وفاة صلاح الدين أكثر من عشر سنوات، فكانت ذكراهما لا تزال حية في النفوس والأذهان . لذا افرد للدولتين النورية الزنكية والصلاحية الأيوبية كتاباً مخصوصاً لينعش بذكر سيرتهما ذاكرة خلفائهم علهم ينهجون نهجهم ويتناسون مصالحهم الشخصية وأنانياتهم الضيقة ويعاودون حمل رسالة الجهاد. ومن هنا أيضاً اهتمامنا بأبي شامة واحتفالنا بكتابه . لقد قسمنا هذه الدراسة إلى فصول ثلاث يتناول الفصل الأول سيرة حياة أبي شامة ومؤلفاته، ويعرض الفصل الثاني للعوامل الممهدة لظهور آل زنكي والأيوبيين على مسرحالأحداث السياسية بينما خصصنا الفصل الثالث للدراسة التحليلية لكتاب الروضتين. والحقنا في الخاتمة منتخبات من الكتاب آملين أن تكون قد وفينا بالقصد، ومتمثلين بقول العماد الأصفهاني : وإنني رأيت أنه لا يكتب أنساناً كتاباً في يومه إلا قال في غده : لو غير هذ لكان أحسن ولو زيد كذا لكان يستحسن. ولو قدم هذا لكان أفضل ولو ترك هذا لكان أجمل ، وهذا من عظيم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على البشر .
المؤرخ أبو شامة سيرة حياته ومؤلفاته
هو عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان بن أبي بكر بن إبراهيم بن محمد المقدسي الشافعي المعروف بأبي شامة ، لأنه كان به شامة فوق حاجبه الأيسر، وكان يلقب بشهاب الدين ويكنى بأبي القاسم محمد . ولد أبو شامة في الثالث والعشرين من ربيع الثاني سنة ٥٩٩هـ الموافق العاشر من شهر كانون الثاني ۱۲۰۳م ، بدمشق في حي متواضع من أحيائها يعرف بدرب الفواخير، القريب من الباب الشرقي، في أسرة متواضعة لا تكاد تتميز بتفوق خاص في الحياة العلمية أو السياسية، كما لم تترك لنا كتب التراجم عنها شيئاً ذا أهمية. وكل ما نعرفه عن هذه الأسرة، عن طريق أبي شامة نفسه، أن مؤسس هذه الأسرة هو أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي القاسم علي الطوسي، المقرىء الصوفي، إمام صخرة بيت المقدس، قتل على يد الصليبيين، فيمن قتل، بعد فتحهم للقدس سنة ٤٩٢هـ / ۱۰۹۹ وأصبح من الشهداء الذين تزار قبورهم، ويلاحظ أن أبا شامة يتشكك في أن هذا الشهيد هو مؤسس أسرته، ويظهر هذ التشكك من خلال حديثه في المذيل، إذ قدم له بقوله : ولعل محمداً الذي انتهى إليه النسب هو أبو بكر . ويقرر أبو شامة أنه نقل هذه الحقيقة عن ابن عساكر .
وعلى هذا لم يبق أمام أسرته إلا الرحيل عن القدس، فخرجوا منها إلى دمشق واستقروا في بعض أحيائها قريباً من الباب الشرقي . ولم يظهر لأحد من أفراد أسرة أبي شامة، بعد هذا، نشاط ذو شأن يحدثنا عنه أبو شامة أكثر من واحد منها هو عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد، الذي اشتغل بتعليم الصبيان في مكتب بباب الجامع الشامي، حتى توفي سنة ٦٠٥ بعد أن عمر تسعين عاماً (٢) أما إسماعيل والد أبي شامة ، الذي توفي سنة ٦٣٨ هـ ، فقد انجب ولدين : إبراهيم في سنة ٥٩١ هـ وعبد الرحمن أبا شامة سنة ٥٩٩ هـ . ويبدو أن والدأبي شامة وأخاه إبراهيم لم يحظيا بدرجة عالية من الثقافة، كما يتضح من رؤيا يقصها أبو شامة عن أخيه الذي رأى والده يقول له في المنام : عليك بالعلم، انظر إلى منزلة أخيك، فنظر فإذا هو في رأس جبل، والوالد والراني يمشيان في أسفله . ويورد أبو شامة في الترجمة التي كتبها لنفسه، كثيراً من الرؤى التي رآها بنفسه أو رآها غيره عنه. فقد رأت والدته، وكانت لا تزال حاملاً به، كأنها في أعلى مكان من المئذنة عند هلالها وهي تؤذن فقصصت رؤياها على من يجيد التعبير عن الرؤيا فقال : تلدين ذكراً ينتشر ذكره في الأرض بالعلم والخير. و رأى أبو شامة في صفر سنة ٦٢٤ هـ كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أقبل إلى الشام منجداً لأهله على الفرنج ، وكان له به خصوصية من افضاء أمره إليه والتحدث معه في أمور المسلمين، وهو يمشي إلى جانبه ملاصقاً منكبه حتى كان الناس يسألونه عنه وعما يريد أن يفعل، وهو يخبرهم وكأنه واسطة بينه وبين الناس .
وفي هذه السنة أيضاً، أي سنة ٦٢٤ هـ ، رأى أيضاً كأنه والفقيه عبد العزيز بن عبد السلام داخل باب الرحمة بالبيت المقدس وقد أراد فتحه، وثم من يمنع عن فتحه ويدفعونه لينغلق فما زالا يعالجان الأمر حتى فتحا مصراعيه فتحاً تاماً بحيث اسند كل مصراع إلى الحائط الذي خلفه. ورأى أيضاً في جمادى الآخرة من السنة نفسها كأن المسلمين في صلاة الجمعة في حر شديد وهو خائف عليهم من العطش ولا ماء ثم يعرف فنظر إلى قليب ماء قريباً منه وحوض، فخطر له أن يسقي من ذلك القليب ويسكب في الحوض حتى يشرب منه الناس إذا انصرفوا من الصلاة. فاستقى شخص قبله لا يعرفه دلواً ودلوين. ثم اخذ الدلو منه فاستقى دلاء كثيرة لم يعرف عددها وسكب في الحوض. ورآه المهتار هلال بن مازن الحراني متقلداً هيكلا وهو يقول : انظروا فلاناً كيف تقلد كلام الله . ورأت امرأة كبيرة كأن جماعة صالحين اجتمعوا بمسجد قرية بيت سوا، وهي قرية من قرى غوطة دمشق، وكأنهم سئلوا ما شأنهم. قالوا : تنتظر النبي ﷺ يُصلي بنا قالت: فحضر (يعني أبا شامة فصلى بهم . وجاءه رجل يستفتيه وهو بالمجلس الكبير الذي اللكتب في صدر الألوان بالمدرسة العادلية وهو الموضع الذي يجلس فيه عادة للفتوى ومنه يخرج إلى الصلاة بهذه المدرسة. فتعجب الرجل، فقيل له مم تتعجب؟ قال : هذا مكان ما رأيته قط. قال : ورأيت في المنام كأني كنت بهذه المدرسة العادلية وفيها خلق كثير، وكان قائلا يقول للناس : تنحوا فالنبي ﷺ يمر : قال : فنظرت فخرج علينا من المجلس الذي للكتب، ومر كما هو إلى المحراب . ورأى الصلاح الصوفي أول ليلة من جمادى الآخرة سنة ٦٥٥هـ كأن أبا شامة متوجه إلى الحج ومعه من الزاد جميع ما يحتاج إليه تزوداً تاماً يعجب منه الرائي . ورأى حسن الحجازي في شهر رمضان سنة ٦٥٧هـ كأن قائلاً في عالم الغيب لا يراه بل يسمع صوته يقول : الشيخ أبو شامة نبي هذا الوقت . ورأى أخاه الشيخ برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل، وهو اسن من أبي شامة بنحو تسع سنين، وكان من الصالحين، كأن أبا شامة متمسك بحبل قد دلي من السماء وهو مرتفع فيه، فسأل إنساناً عن ذلك في المنام، فانكشف لهما البيت المقدس والمسجد الأقصى. فقال له ذلك الإنسان : من بي هذا المسجد فقال : سليمان بن داود. فقال : أعطي أخوك مثل ما أعطي سليمان. فقال له : كيف ذلك؟ فقال : أليس سليمان أوتي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده. أليس اعطي كذا وكذا، وعدد أنواع ما أوتي . فقال : بلى، قال: وكذا أخوك أوتي أنواعاً من العلم كثيرة . هذه المنامات التي أوردها أبو شامة في الترجمة التي كتبها لنفسه . سواء التي رآها بنفسه أو رأها غيره عنه يستدل بها على كثير من تطورات حياته. وإن كان أبو شامة يخبرنا أنه سطرها في مذيلة تحدثاً بنعم الله تعالى كما أمر سبحانه في قوله تعالى : وأما بنعمة ربك فحدث واعتبرها من البشائر حيث قال النبي ﷺ : لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له.
وعندما بلغ أبو شامة العاشرة من العمر فاجأ أباه بقوله : قد ختمت القرآن حفظاً، فتعجب أبوه من ذلك، كما كان يتعجب من ولع أبي شامة بالتردد على المكتب وسعيه في طلب العلم وحرصه على القراءة على خلاف المعروف من عادة الصبيان (۲) ثم لم يلبث أبو شامة أن بدأ دراسة القراءات السبع . والفقه والعربية والحديث. وبعد أن أتقن هذه الدارسات وفرغ منها، رأى أن يصرف بعض عمره إلى الدراسة التاريخية حتى يستكمل ثقافته الدينية و يحوز بذلك سنة العلم وفرضه . وإذا تتبعنا حياة أبي شامة في مرحلة طلبه العلم، ثم فيما أعقب هذه المرحلة التتبين وضعه في هذه الظروف الاجتماعية التي عاش فيها كثير من انداده العلماء.
وجدنا الغموض يكتنف حياته في جميع مراحلها، فهو مقتصد في الحديث. اللهم إلا في بعض الفترات القصيرة التي نجد عنها إشارات موجزة مختصرة، يذكرها أبو شامة بين حين وآخر فتلقي بصيصاً من الضوء على حياته، في هذه الفترات القصيرة. وأولى هذه الإشارات يرجع إلى سنة ٦١٥ هـ ، عند ما كان في السادسة عشرة من عمره، ففي هذه السنة نجده مقيماً في المدرسة العزيزية (1) بدمشق. ثم لا تلبث أن نجد بعد هذا إشارة إلى أنه أتم دراسة علم القراءات في السنة التالية. أي سنة ٦١٦هـ . وقد يفهم من هذا أن صلته بهذه المدرسة انقطعت منذ نجح في إتمام دراسته لهذا الفرع من العلوم . حج مع والده سنة ٦٢١ هـ ، ثم في السنة التي بعدها أي سنة ٦٢٢ هـ ، وزار القدس سنة ٦٢٤ هـ بصحبة الفقيه عز الدين بن عبد السلام، وزار مصر سنة ٦٢٨هـ زيارة علمية دراسية استمع فيها إلى أساتذة دمياط والقاهرة والإسكندرية، ولا نجد بعد هذا شيئاً يذكر عن حياة أبي شامة إلا إشارة مقتضبة في سنة ٦٣٤ هـ، وأخريات في سنوات ٦٤٤ ، ٦٤٨، ٦٥٤، ٦٥٦ ، وكلها إشارات غير مباشرة وردت في أثناء تسجيله لبعض الحوادث أو الوفيات. ومن الممكن الإستدلال بها على أنه كان يقيم في هذه السنوات في المدرسة العادلية (1) بدمشق. ونحن لا ندري إذا كان أبو شامة قد استمر مقيماً في هذ المدرسة بعد سنة ٦٥٦ هـ حتى انتقل منها سنة ٦٦٠ هـ إلى المدرسة الركنية (1) عندما عين مدرساً لها (۲) كما أنه من غير الممكن الجزم بتاريخ انتقاله من المدرسة العزيزية التي كان مقيماً بها حوالي ٦١٥ هـ إلى المدرسة العادلية التي ثبت استقراره بها سنة ٦٣٤هـ .
ويبدو أن إقامة أبي شامة بهذه المدرسة الأخيرة بين سنتي ٦٣٤، ٦٥٦هـ كانت متصلة، لم يقطعها إلا مدة انصرافه إلى بساتينه الخاصة . هذا الغموض الذي يحيط بحياة أبي شامة يمتد حتى يخفي عنا الوظائف التي كان يشغلها ويعتمد عليها في حياته، غير أنا نجده يشير إلى أن الاختيار وقع عليه، سنة ٦٣٥هـ ليكون أحد المعدلين بدمشق (۱). ويذكر أن نائبه في الصلاة بالمدرسة العادلية الشيخ شمس الدين محمود النابلسي ، توفي سنة ٦٥٦هـ (٢) . وقد ناب الشيخ النابلسي عن أبي شامة في مناسبتين لم يحدد تاريخهما، الأولى مدة مرضه، والثانية في المدة التي انصرف فيها أبو شامة عن المدرسة إلى بساتينه الخاصة يفلحها ويعمل فيها بنفسه معرضاً عن الأوقاف، متحرراً من قيودها . وعندما بلغ أبو شامة الستين من عمره تولى التدريس في المدرسة الركنية سنة ٦٦٠ هـ، وبقي فيها حتى عين مدرساً للمدرسة الأشرفية سنة ٦٦٢هـ (٣) ، ثم أضيفت إليه وظيفة الاقراء بالتربة الأشرفية. واستمر يشغل هاتين الوظيفتين حتى توفي سنة ٦٦٥هـ . من هذه الإشارات جميعها يمكن القطع بأن أبا شامة شغل منصب الأستاذية للمرة الأولى سنة ٦٦٠ هـ. وهذه الوظيفة كانت تتيح لمتقلدها الإشراف على إدارة المدرسة إشرافاً كاملاً يشمل الأوقاف المخصصة لها. والمتتبع لحياة العلماء في هذه الفترة التي شهدت نهضة علمية ميسرة يجد أن كثيراً منهم اعتمد اعتماداً كبيراً على هذه الأوقاف والمدارس في تنظيم حياته، مستفيداً من مواردها في فترة طلب العلم، ثم متقلداً وظيفة الأستاذية في هذه المدارس، أو قائماً بالإشراف على الأوقاف المخصصة لها بعد اجتياز مرحلة الطلب. بل اننا نجد كثيراً من هؤلاء العلماء يجمعون بين التدريس والإشراف على عدد كبير من الأوقاف يديرونها ويدبرون شؤونها، ووسيلة بعضهم إلى هذا التقرب من الأمراء الواقفين، أو من السلاطين الحاكمين . كما يمكن القطع أن أبا شامة كان يشغل وظيفة صغيرة في شبابه ، سنة ٦٣٥ هـ ، عندما اختير واحداً من عدول دمشق ثم أم الصلاة في المدرسة العادلية التي كان يقيم بها في دمشق مدة لا تستطيع تحديدها ، كما لا نعرف تاريخ بدئها أو نهايتها ، ويستثنى من هذه المدة الفترة التي انقطع فيها عن الإمامة، عندما خرج إلى بساتينه الخاصة يعمل فيها ويعتمد عليها في حياته .
هذا الغموض الذي يحيط بالجانب المادي من حياة أبي شامة لا يعني، في حال من الأحوال أنه كان شخصية مغمورة في الحياة الحكومية، كما لا يدل على نقص في كفاءته جعل رجال الدولة يصرفون النظر عن إسناد بعض المناصب الهامة إليه، بل إننا نجد في حديث أبو شامة عن بعض أساتذته الذين اعرضوا عن التزلف إلى ذوي السلطان ما يدل على أنه اتخذهم قدوة له ينهج نهجهم ويترسم خطاهم. فمنذ صغره عندما كان يقرأ القرآن في جامع دمشق، كان أبو شامة ينظر إلى مشايخ العلم كالشيخ فخر الدين أبو منصور ابن عساکر ویری طريقه في فتاوى المسلمين وحاجة الناس إليه وسماع الحديث النبوي عليه، وهو يمر من مقصورة الصحابة رضي الله عنهم، إلى تحت قبة النسر لسماع الحديث، إلى المدرسة التقوية . (۱) لالقاء دروس الفقه، ويرى إقبال الناس عليه وترددهم إليه، مع حسن سمته واقتصاده في لباسه فيستحسن طريقته ويتمنى رتبته في العلم ونشره له وانتفاع الناس بفتاويه .
كما صحب أبو شامة أستاذه علم الدين السخاوي (۲) ما يقرب من ثلاثين سنة بين سنتي ٦١٤ - ٦٤٣هـ ؛ وقد كان السخاوي هذا زاهداً في صحبة رجال السلطان، كما كان متعففاً زاهداً مقتنعاً باليسير وكان للناس فيه اعتقاد عظيم . فكانوا يزدحمون في الجامع لأجل القراءة ولا يصح لواحد منهم نوبة إلا بعد زمان». ومما يدل على زهده وتعففه خروجه مرة مع أبي شامة لزيارة المقابر. وفي هذه الزيارة لفت نظر أبي شامة إلى بيت كتب على قبر الفقيه ابن الشاغوري يقول : ماكنت تقرب سلطاناً لتخدمه لكن غنيت بسلطان السلاطين وتتلمذ أبو شامة كذلك على عز الدين بن عبد السلام (۱) الذي اخرج من دمشق سنة ٦٣٩هـ لقوة شخصيته وخوف سلطانها منه، فذهب إلى مصر وأقام بها حتى توفي سنة ٦٦٠ هـ وكان عز الدين بن عبد السلام هذا شيخ المسلمين والإسلام لم ير من رآه مثله علماً وورعاً وسلطان العلماء . وقياماً في الحق، وشجاعة وسلاطة لسان، والسبب المباشر لإخراجه من دمشق أنه أسقط أسم الصالح إسماعيل، أميرها من الخطبة عندما استعان بالفرنج وأعطاهم مدينة صيدا. وقد ساعد ابن عبد السلام في هذه الخطوة الشيخ جمال الدين بن الحاجب إمام المالكية، وعندما وصل إلى مصر تنحى له العلماء عن أماكنهم، وتأدب معه الشيخ زكي الدين بن عبد العظيم المنذري وامتنع عن الافتاء من أجله وتقديراً له وقال : ليس لها إلا عز الدين.
وفي سنة ٦٦٠ هـ توفي ابن عبد السلام في مصر فخرج السلطان بيبرس في جنازته وحدث خاصته قائلاً : اليوم استقر ملكي لي ، فلو أمر عز الدين الناس في شأني بما أراد الأطاعوه مبادرين . طالت صحبة أبي شامة لهذين العالمين الجليلين ولا مثالهما من أئمة الزاهدين فتأثر بهم واتخذهم قدوة، ومثلا، فعزف عن المناصب الحكومية، وترفع عن التكالب على أموال الأوقاف، وانصرف مدة، كما ألمحنا، إلى بساتينه الخاصة يفلحها بنفسه ويعتمد عليها وحدها في حياته حتى اغنى بيته وتمكن من إسعاد أهله وأقاربه المحتاجين وصان وجهه عن الناس واحس بالحرية والإستقلال، كما يقول في المذيل (۱) وقد سجل شعوره هذا في قصيدة أوردها في المذيل في مائة وعشرة أبيات وفيها يقول : أيها العاذل الذي إن تحرى قال خيراً ونال بالنصح اجرا لا تلمني على الفلاحة واعلم إنها من أحل أحب واثرى وبها صنت ماء وجهي عن النا س جميعاً وعشت في القوم حرا إذ بها صار منزلي ذا غلال مع عيال من بعد ما كان فقرا وفي هذه القصيدة يوجه حديثه إلى طالب العلم مندداً بتكالب العلماء على التزلف إلى ذوي السلطان . فيقول : اتخذ حرفة تعيش بها يا طالب العلم، إن للعلم ذكرا لا تهنه بالإنكال على الوق ف، فيمضي الزمان ذلا وعسرا إنما تحصل الوقوف لشر يد ونذل من العلوم مبرا أو لمن يلزم الأكابر لا يب رح في خدمة لهم، ومدح وإطرا طالباً جاههم مجيباً إلى كل أمور لهم، عكوفاً مصراً فترى قاضي القضاة ومن يذ کر درساً يرعاه سراً وجهرا قاصداً قربة فيصغي إليه فاعلا ما يريد نفعاً وضرا وقد أطنب كتاب التراجم في مدح صفات أبي شامة الطيبة، من تواضع وأخلاق حميدة واطراح للتكلف وحرص على الاجتهاد في الأحكام المختلف فيها فلا يفتي إلا بما يراه أقرب إلى الحق وإن كان خلاف مذهبه الشافعي تبعاً للأدلة . وجب للعزلة والإنفراد عزوف عن التردد إلى أبواب أهل الدنيا متجنباً المزاحمة على المناصب لا يؤثر على العافية والكفاية شيئاً. ومن شعره في هذا الخصوص (۱) . الثوب واللقمة والعافية لقانع من عيشه كافية وما يزد فالنفس لیست به وإن تكن مملكة راضية وله أيضاً : أنا في عز القناعة رب اتمعها رافل في كل ساعة بخیر في معافاة وطاعة ولا نجد في مؤلفي التراجم من يشذ عن هذا الإجماع في تقدير شخصية أبي شامة وطيب أخلاقه إلا قطب الدين اليونيني، الذي يتخذ موقفاً معارضاً، فيذكر أن أبا شامة كان كثير البغض من العلماء والأكابر والصلحاء والطعن عليهم والتنقيص بهم، وذكر مساوى الناس وثلب أعراضهم، ولم يكن بمثابة من لا يقال فيه فقدح الناس فيه وتكلموا في حقه، وكان عند نفسه عظيماً فسقط بذلك من أعين الناس. وصدور هذا الطعن من معاصر لأبي شامة يحملنا على الوقوف عند قوله لنتبين وجه الصحة فيه، وهذا ما يقتضينا أن نحاول معرفة نوع الصلة التي كانت بين الرجلين. وفي هذا نجد أن أبا شامة كان شافعي المذهب، على حين كان اليونيني من قادة الحنابلة (و) ابناً لإمام من أئمتهم في بعلبك وهو الشيخ محمد الحنبلي اليونيني الذي توفي سنة ٦٥٧هـ . وقد ذكر أبو شامة نبأ وفاته في المذيل ضمن حوادث هذه السنة (1) وعلق عليها، مبيناً أن الإمام اليونيني ألف كتاباً في الإسراء مليئاً بالخطأ الفاحش فحمل هذا أبا شامة على تأليف كتاب خاص یفند به مزاعم اليونيني ويصحح اخطاءه وسمى كتابه هذا : الواضح الجلي في الرد على الحنبلي». ولم يكن الحنابلة عندئذ على علاقة طيبة بأئمة المذاهب الأخرى في الشام عامة ودمشق خاصة .
حتى أننا نرى أبا شامة يمدح أستاذه زين الأمناء ابن عساكر بأنه كان لا يمر قرب صفوف الحنابلة حتى لا يأثموا بسبهم له، ويعلل هذا صراحة بالبغض العنيف الذي يكنه الحنابلة للشافعية ذلك البغض الذي يكفينا للتدليل عليه أن تذكر أن زكي الدين بن رواحة أنشأ مدرستين في دمشق وحلب، وجعل من شروطه للدراسة فيهما ألا يدخلهما مسيحي ولا حنبلي، وهكذا نجد أن من المحتمل أن اليونيني تأثر في العبارات التي تحدث بها عن أبي شامة بعاملين أحدهما البغض التقليدي الذي شاع بين الحنابلة والشافعية . وكلاهما إمام من أئمة مذهبه، وثانيهما البغض الشخصي الذي أحس به اليونيني نحو أبي شامة الذي ألف كتاباً خاصاً يعدد فيه اخطاء والده ويصححها (1) .
ويبدو أن حياة أبي شامة في مجموعها، كانت سهلة مطمئنة، وأنه لم يعترضه من الصعوبات ما يعكر صفوها أو يخرج بها عن هدوئها واستقرارها باستثناء حادثتين أشار إليهما في تقريريه عن سنتي ٦٥٨ و ٦٦٥هـ . ففي سنة ٦٥٨هـ (٢). وهي سنة دخول التتار دمشق استدعاه نائب التتار وأهانه Insert وهدده بضرب عنقه، فاضطر أبو شامة أن يوقع له بمبلغ كبير، حتى يطلق سراحه وقد هزم التتار بعد هذه الحادثة بعشرة أيام في موقعة عين جالوت واعتبر أهل دمشق الهزيمة كرامة لأبي شامة وقيل في ذلك : تفرق جمع الكفر لما تعرضوا أبا شامة ظلماً وكدر ورده أرادو به كيداً وما هيب علمه فخار له الرحمن إذ هو عبده فما كان بين الجور منه وكسرهم لدى رمضان غير عشر نعده فحاشى لمفتي الشام يهمل أمره ويخفض ذو علم ويرفع ضده له أسوة بالأنبياء وصالحي الـ برية فيه ليس يخلف وعده يعز علينا ما جرى غير أننا نسر به حيناً فلا كان فقده وحادثة أخرى كان لها على ما يظهر أثر هام في صحة أبي شامة . تلك هي أنه تعرض لهجوم اثنين عليه وهو في منزله، في جمادى الآخرة من سنة ٦٦٥هـ متظاهرين بأنهما قدما في طلب الفتيا، وبعد أن اطمأنا إلى انفرادهما به وإلى غيبة من قد يحاول نجدته وانقاذه من اعتدائهما انهالا عليه بالضرب المبرح، ربما لاسباب مذهبية وتركاه بعد ذلك مريضاً مجهداً . وقد عرض عليه بعض أصحابه أن يتقدم بالشكوى إلى ولاة الأمر فرفض قائلا : قد فوضت أمري إلى الله، فما أغير ما عقدته مع الله وهو يكفينا سبحانه، ومن يتوكل على الله فهو حسبه (۱) . وقد نظم في هذه المناسبة الأبيات الثلاثة التالية : قل لمن قال آلا تشتكي ما قد جرى فهو عظيم جليل يقيض الله تعالى لنا من يأخذ الحق ويشفي الغليل إذا توكلنا علیه کفی فحسبنا الله ونعم الوكيل .
وقد توفي أبو شامة بعد شهرين ونصف من هذا الحادث وذلك في التاسع عشر من شهر رمضان سنة ٦٦٥هـ الموافق ۱۳ حزیران سنة ١٢٦٨ دفن في مقبرته بالفراديس. وكان الذين قتلوه هم الذين جاءوه من قبل فضربوه ليموت فلم يمت.
الرابط
اضغط هنا
0 التعليقات :
إرسال تعليق