للتحميل PDF | الأسرى المسلمون في بلاد الروم - دكتور حامد زيان غانم
دار الثقافة للنشر والتوزيع ، القاهرة 1989م
عدد الصفحات : 88
أوصى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) اصحابه يسوم بدر أن يكرموا الأساري ، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند تناول الطعام ، وذلك دون انتظار كلمة شكر أو ثناء من هؤلاء الأسرى ، وانما حبا لوجه الله تعالى حيث جاء في التنزيل العزيز : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا » (1) . وقد حافظ الخلفاء على هذه الوصية وعلى تنفيذ تعاليم الاسلام ، فعاملوا أسراهم معاملة طيبة . ولما كان هناك احتكاك عسكرى بين الدولة الاسلامية وجارتها في الشرق ، فقد وقع بطبيعة الحال عدد من الأسرى في الجانبين . دولة الروم وفى الصفحات التالية سنحاول الوقوف على أحوال الأسرى المسلمين داخل بلاد الروم ، وكيف عاملهم الروم - بالاضافة الى ذلك تطرق البحث إلى الحديث عن فداء هؤلاء الأسرى والاسلوب المتبع فى فدائهم ، كذلك كيف كان هؤلاء الأسرى بمثابة مصدر من مصادر معلوماتنا عن بلاد الروم . وبعد ، فاني أرجو من الله العلى القدير أن يجد القارىء الكريم متعه وفائده فى هذه الدراسة المتواضعه ، ولعى وفقت في سد حاجة المكتبة العربية الى مثل هذه الدراسات
والله ولي التوفيق ،،
حامد زيان غانم ۱۰ محرم ١٤٠٩هـ / ٢٣ أغسطس ۱۹۸۸م.
اشتعال نار الحرب بين المسلمين والبيزنطيين :
ظلت نار الحرب مشتعله بين المسلمين والبيزنطيين الروم ( طيلة العصور الوسطى الى أن خمدت نهائيا بفتح المسلمين للقسطنطينية عام ٥٨٥٧ / ١٤٥٣م . وتطالعنا كتب التاريخ بسلسلة متصلة الحلقات من المعارك والحروب التي نشبت بين الجانبين منذ بداية نشأة الدولة الاسلامية على يد الرسول ( ص ) ومن بعده الخلفاء الراشدين وما حققوه من فتوحات اسلامية (۱) . كذلك بذل الخلفاء الأمويون جهدا كبيرا فى سبيل الجهاد ضد البيزنطيين منذ زمن معاويه بن ابي سفيان الى زمن مروان بن محمد حيث استمرت المعارك مشتعله ولم ترتبط بمحور معين وانما شملت عددا من الميادين الحربية سواء كانت بريه أم بحريه ، ولم تسلم عاصمة البيزنطيين نفسها من غارات المسلمين الذين حاولوا فتحها مرارا (٢) .
غير أن الأمر اختلف بعد سقوط الدولة الأموية وقيام العباسيين مقامهم . حقيقة أن الحرب بين العباسيين والبيزنطيين استمرت قائمة ولكنها اتخذت اسلوبا آخر غير ما كان معروفا زمن الأمويين ، فلم نعد نسمع عن هجمات. المسلمين المستمرة فى عمق الدولة البيزنطيه كما كان الحال زمن الأمويين ، وانما اقتصرت الحرب على اشتباكات في أوقات متفاوته تتخلها في بعض الأحيان هجمات في العمق والمتتبع لسياسة العباسيين الخارجية تجاه البيزنطيين. يجدها قامت على أساس دفاعى أكثر منه هجومي ، فمنذ الأيام الأولى للدولة العباسية اقيمت خطوط الدفاع القوية على طول الحدود بين الدولتين . وكانت تلك الخطوط - زمن العباسيين الأوائل تمتد عبر خط طويل من ملطيه على الفرات الأعلى الى طرسوس بالقرب من ساحل البحر المتوسط، و ، وهى عباره عن سلسلتي جبال طوروس وطوروس الداخلية ، وقد اقيمت على طول هذا الخط الحصون والقلاع القويه ، وتسمى تلك التحصنيات باسم الثغور (1) .
وانقسم هذا الخط الدفاعى أو تلك الثغور الى قسمين : الأول في الشمال الشرقى ويسمى بالثغور الجزريه (۲) وتدافع عن شمال العراق وثغوره الهامة هي : ملطیه وزبطره وحصن منصور ومرعش وشمشاط ، والقسم الثاني في الجنوب الغربي ويسمى بالثغور الشاميه ويحمى الشام وثغوره الهامة هي : المصيصه وأذنه وطرسوس (1) . وعبر هذه الخطوط الدفاعيه استمر الاحتكاك العسكرى قائما بين المسلمين والبيزنطيين ، وكثيرا ما أنتهز (٤) اباطرة الدوله البيزنطيه فرصة الاضطرابات داخل الدولة العباسية وشنوا غاراتهم على تلك الحدود بقصد الاستيلاء على بعض الحصون والقلاع أو المدن الواقعة بها (1) . ولم يقتصر العباسيون بدورهم فى الدفاع عن تلك الحصون والمدن ، وكثيرا ما قام الخلفاء العباسيون أنفسهم بحملات مكثفه من أجل استرداد هذه الحصون أو في مهاجمة أحد الحصون أو المدن البيزنطية (٢) . هذا بالاضافة الى ما اعتاده العباسيون من القيام بالاغاره على أراضي الدولة البيزنطيه فى فصلي الربيع والصيف وهي ما يطلق عليها اسم الصوائف ، وكذلك في فصل الشتاء وهى ما يطلق عليها اسم الشواتي (1) .
معاملة البيزنطيين للأسرى المسلمين :
ونتيجة لاستمرار الحرب بين الجانب الاسلامي والجانب البيزنطى وقع كثير من الأسرى فى يد الجانبين ، ولم يقتصر الأسر على الجند والمحاربين فقط وانما تعداه الى سائر طوائف السكان من علماء وتجار وحرفيين بالاضافة الى اعداد كبيره من النساء والأطفال والشيوخ ، وذلك لأن الاغارات التى كان يشنها كل من الجانبين كانت توجه عادة الى المدن والقرى الواقعه عبر الحدود لتعذر مهاجمة الحصون لمناعتها وقد أعدت كل من الدولتين أماكن خاصة لاحتجاز الأسرى ، ويهمنا فى هذا المجال ما يخص الدولة البيزنطيه التي اعدت اماكن معينه لاحتجاز الأسرى المسلمين ، كذلك وضعت نظاما خاصا لمعاملة هؤلاء الأسرى .
وأول ما يلاحظ أن الدولة البيزنطيه عمدت الى ابعاد الأسرى عن الحدود الاسلامية التي كانت معرضة دائما الاغاره من قبل المسلمين ، وكانوا يسارعون بنقل الأسرى إلي الاماكن التي اعدت لهم فى عاصمة الدولة البيزنطيه نفسها أو فى سواها ، اما عن طريق البر أو عن طريق البحر ففي عام ۲۸۷ هـ ) ۹۰۰ م ( عندما وقع أبو ثابت أمير طرسوس هو وجماعة كبيره من المسلمين أسرى في يد البيزنطيين ، حملهم البيزنطيون الى حصن قونيه ومنه نقلوهم الى القسطنطينية (1) .
كذلك ذكر هارون بن يحيى أنه بعد أن وقع أسيرا في يد البيزنطيين حملوه الى القسطنطينية عن طريق البحر فى المركب من عسقلان الى انطاليه (۲) ثم اتخذوا الطريق البرى بعد ذلك الى نيقيه ومنها الى القسطنطينية (1) . أما اماكن احتجاز هؤلاء الأسرى ، فكانت في دار البلاط بالعاصمة وهى التى يحبس بها الوجوه والاشراف من المسلمين اذا اسروا ، وقد أشار المقدسي (٤) الى أن مسلمه أبن عبد الملك هو الذى أشار على الامبراطور ليو الثالث الايسورى ( ٧١٧ - ٧٤٠ م ) ببناء هذه الدار « اعلم أن مسلمه بن عبد الملك لما غزا بلد الروم ودخل هذا المصر شرط على كلب الروم بناء دار بازاء قصره في الميدان ينزلها الوجوه والاشراف اذا أسروا ليكونوا تحت كتفه وتعاهده ، فأجابه الى ذلك ، وبنى دار البلاط ، ويبدو أن دار البلاط هذه كانت أحد الحبوس المعده للأسرى بالقسطنطينية ، وقد أشار هارون بن يحيى وهو أحد الأسرى المسلمين الذين وقعوا في يد البيزنطيين الى ذلك بقوله : ( وفي الدهليز أربعة حبوس حبس منها للمسلمين وحبس الأهل طرسوس وحبس للعامه . لصاحب الشرط (1)
وبالاضافة الى حبوس القسطنطينية كانت توجد حبوس أخرى في أعمال الدولة البيزنطيه ، وقد نقل ابن حوقل حديثا عن أحد شهود العيان ممن كان له درايه وعلم بما يجرى داخل الدولة البيزنطيه وهو أبو الحسن محمد بن عبد الوهاب التل موزنى الذى كان يعمل عامل بريد حيث قال : « وكنت اسمع أن للملك أربعة حبوس دون دار البلاط التي يحبس بها اسراء الملك في رساتيق لهم ، فأحدها بعرف بالطرقسيس والآخر بالابسيق والآخر بالبلقلار والآخر بالنومره ) .
ويتضح لنا مما رواه التل موزني أن لكل حبس من هذه الحبوس صفات معينة ، فمنها المريح الذي كان يجد فيه الأسير كل رعاية وعناية ، ومنها السيىء الذي لا يجد فيه الأسير سوى الهوان وعدم الراحة والتضيق على حريته . كذلك كان البيزنطيون ينزلون الأسرى في احباسهم كل حسب طبقته ووظيفته ومن الجدير بالذكر أن البطريرك نيقولا بطريرك القسطنطينية ( ۹۰۱ - ۹۰۷ ، ٩١٢ - ٩٢٥ ) أرسل الى الخليفة المقتدر بالله العباسي ( ٢٩٥ - ٥٣٢٠ / ٩٠٨ - ۹۳۲ م ( رسالة يشرح له فيها حال الأسرى المسلمين وما يتمتعون به من عنايه ورعايه ، ووضح له أن القائمين على الأمور بالدولة البيزنطيه عملوا دائما على الاعتناء بالأسرى المسلمين وانزالهم فى أماكن مريحه حيث قال (1): ما أن يقع المحاربون فى ايديهم - يقصد ايدى البيزنطيين - فعليهم معاملتهم كرعايا والاعتناء بهم کی لا تنغص عليهم حياتهم ولا يصيبهم أى مكروه ما عدا حرمانهم من الوطن والأقارب والأصدقاء والأهل ، ولذلك فانهم يمنحونهم مساكن فسيحة ، وجعلهم يتمتعون بالهواء النقى كما يليق بحياة الانسان » •
غير أن حديث البطريرك هذا لم يكن كله صحيحا فيستفاد مما ذكره أبو الحسين محمد بن عبد الوهاب التل موزنى ان بعض الأحباس كانت ضيقة مؤلمه مظلمه مثل حبس النومره ، وهو الأمر الذي لا يليق بحياة الأنسان (۱). ولم يقتصر الأمر على اتهام الدوله البيزنطيه في الاساءة الى أسارى المسلمين وعدم العنايه بهم ، وانما تعدى كل ذلك ووصل الى درجة التضيق على حريتهم الدينية والزامهم بترك الدين الاسلامي والتنصر (1) !! . فقد ورد فى المصادر الاسلامية أنه فى بداية عصر الامبراطور قنسطنين السابع ( ۹۱۳ - ٩٥۹ م ) وقع على الأسرى المسلمين بالدولة البيزنطية جهد وبلاء شديدين (۲) من جراء التعسف معهم واجبارهم على اعتناق المسيحيه وما ان علم بذلك الوزير على بن عيسى الذي عرف بتدينه والمحافظة على تعاليم الاسلام والبعد عن الهزل (٤)
حتى اشتد غضبه وأرسل رسولا من قبله مع مبعوثين من قبل بطاركة انطاكية وبيت المقدس الى القسـ طنطينية للوقوف على حقيقة هذا الأمر (1) . واذا كان البطريرك نيقولا الذي كان وصيا على قسطنطين السابع قد نفى نفيا قاطعا تلك التهمه ؛ فان الأحداث التاريخيه اثبتت صحة هذا الاتهام ؛ و آن اكراه البيزنطيين للأسري المسلمين على اعتناق المسيحيه كان سياسة اتبعها البيزنطيون منذ الأيام الأولى للفتوحات الإسلامية وما حدث لعبد الله بن حذافة السهمى صاحب رسول الله ( ص ) عندما وقع في أسر البيزنطيين أثناء بعض الغزوات عام ۱۹ هـ / ٦٣٩ م ومحاولة اكراهه على التنصر لهو خير شاهد على ذلك .
ولندع ابن الأثير يروي لنا قصة عبد الله بن حذافة السهمي (1) . « أسرت الروم عبد حذافة بن السهمى ، صاحب النبي ( ص ) فقال له الطاغيه - يقصد بذلك الامبراطور هرقل - تنصر والا القيتك في البقرة اناء ضخم من نحاس قال : ما أفعل . فدعا بالبقرة النحاس فملئت زيتا وأغليت ، ودعا برجل من أسرى المسلمين فعرض عليه النصرانية فأبى ، فالقاه في البقرة ، فاذا عظامه تلوح . وقال لعبد الله تنصر . والا القيتك . قال : ما أفعل . فأمر به أن يلقى في البقرة . فيكي . فقالوا : قد جزع ، قد يكي . قال : ردوه . قال : لا تري انى بكيت جزءا مما تريد ان تصنع بي ، ولكني بكيت حيث لي الا نفس واحده ، يفعل بها هذا في الله ، كنت أحب أن يكون لى من الأنفس عدد كل شعره بي ، ثم تسلط علي تفعل لي هذا . قال : فاعجب منه واحب أن يطلقه فقال : قبل رأسى وأطلقك . قال : ما أفعل . قال : تنصر وأزوجك بنتي واقاسمك ملكي ، قال : ما أفعل . قال : بل قبل رأسى واطلقك وأطلق معك ثمانين من المسلمين . قال : اما هذا فنعم . فقبل رأسه ، وأطلقه وأطلق معه ثمانين من المسلمين . فلما قدموا على عمر بن الخطاب قام اليه فقبل رأسه ) .
ولم تتخل الدولة البيزنطية عن هذه السياسة طيلة العصر البيزنطي ، وقد أشار ابن خلدون () الى أنه أثناء زحف المعتصم على عمورية عام ٨٣٨/٥٢٢٣م وفرضه الحصار عليها ( خرج إليه رجل من المتنصره فدله على عوره من السور بنى ظاهره وأخل باطنه » ونخلص من هذه الحادثة أن هذا الرجل لم يترك الاسلام بمحض ارادته وانما أكره على التنصر ، لأنه لو كان قد تنصر عن طيب خاطر لما أقدم على افشاء أسرار عموريه واخبار المعتصم بأماكن ضعف اسوارها مما سهل له اقتحامها ، وانما دفعه الى ذلك رغبته الملحة في الانتقام ممن أكرهوه على ترك دينه ، ومحاولة منه فى التكفير عن الخطأ الجسيم الذي ارتكبه بردته عن الاسلام.
وقد أشار ابن خلدون في موضوع آخر (۱) الى أن اباطرة الأسرة العمورية دأبوا على اغراء الأسرى المسلمين على ترك الاسلام و المتنصر قبل أن تتم عملية فدائهم ، فمن قبل التنصر وترك الدين الاسلامي أبقوه بالدولة البيزنطية ومن أبى وهؤلاء هم 4 الغالبية أعادوهم الى الدولة الاسلامية بعد فدائهم . ولم يكن لدى القائمين على الأمور داخل الدولة الاسلامية القدرة على التدخل في سياسة البيزنطيين الداخلية واجبارهم على تغيير سياستهم فى معاملة الأسرى المسلمين ورفع ذلك البلاء عنهم الا عن طريق ارسال الرسائل للمسئولية بالدولة البيزنطية لمناشدتهم رفع ذلك البلاء الواقع على الأسرى المسلمين ، وقد أوضح ذلك بصراحه الوزير على بن عيسى عندما قال : « وليس هذا مما لي فيه حيلة لأنه أمر لا يبلغه سلطاننا » وجعلهم يعدلون عن هذه السياسة ، وعندما فشلت هذه الوسيلة فى الضغط على البيزنطيين.
لجأت الدولة العباسية الى وسيلة أخرى للضغط على الدولة البيزنطية اتعديل سياستها تجاه الأسرى المسلمين ، وتلخصت هذه الوسيلة في اعادة النظر فى معاملة النصارى المقيمين داخل الدولة الاسلامية ، وانتهى الأمر بأن أصدر المقتدر قرارا عام ٢٩٥ هـ / ٩٠٧ م يقضى بحرمان كافة أهل الذمة من العمل بالوظائف الحكومية بالدولة الاسلامية فيما عدا الطب والجهبذة (۱) .
وجاء هذا القرار عقابا لما أنزله اخوانهم في الدين - البيزنطيين - من ضيم وظلم بالأسرى المسلمين . وكان لقرار المقتدر هذا نتائج كبيرة من أهمها تحسين معاملة البيزنطيين للأسرى المسلمين ، كذلك كان دافعا لأن يسارع البطريرك نيقولا بطريرك القسطنطينية والوصى على عرش الامبراطورية فى ارسال رسالة الى الخليفة المقتدر يحثه فيها على العدول عن هذا القرار ويؤكد له عدم المساس بحرية الأسرى المسلمين حيث قال : « ٠٠٠ فانظر اذن كم هو أقرب الى العقل الا يلحق بالنصارى الخاضعين لك أي مضايقة بسبب المسلمين المقيمين ها هنا لو سلمنا بذلك كما سبق وأن أشرنا » .
وفى موضع آخر يؤكد نيقولا في رسالته على عدم المساس بالحرية الدينية للأسرى المسلمين « ... فلا مسجد ملتكم دمر في الوقت الحاضر أو الماضي ، ولا المسلمون المقيمون هنا منعوا من التردد عليه ، لا بل ان المسجد والذين يرغبون في خدمته يلقون من الرعاية ما كانوا يلقونها لو كانوا فى أرضكم . ثم ان أحدا من المسلمين لم يجبر على ترك دينه بأمر الملك أو بالاكراه من قبل الامراء أو النبلاء » •
واذا كان القائمون على الأمور بالدولة البيزنطية حاولوا التخلص من تهمة اكراه الأسرى المسلمين على التنصر ، فانه من الثابت ادانتهم فى عدم العناية بالأسرى المسلمين ورعايتهم الرعاية الكافية أو كما قال الوزير على بن عيسى ) و اجاعاهم واعرياهم (۱) » ، ويتضح ذلك من تقرير الرسول الذي بعثه على بن عيسى للوقوف على احوال الأسرى المسلمين والذى أشار الى أن هؤلاء الأسرى اهملوا اهمالا تاما في ماكلهم أو ملبسهم ومما جاء في هذا التقرير : « .. .. ثم حملت الى دار البلاط فرأيت الأسارى وكأن وجوههم قد أخرجت من القبور تشهد بالضرر وما كانوا فيه من العذاب ، الا أنهم مرفهون في ذلك الوقت ، وتأملت الى ثيابهم فاذا جميعها جدد ، فعلمت اني منعت من الوصول تلك الأيام حتى غير زى الأسارى».
ويتضح لنا من هذا التقرير أن الجوع كان هو السمه الظاهرة على وجوه الأسرى ، مما جعلهم يبدون وكأنهم اخرجوا من القبور ، كذلك لم يقدم البيزنطيون لهم الكساء اللازم واللائق واستمروا كذلك الى أن وصل مبعوث الخليفة فعمل القائمون على أمر الدولة البيزنطية على استبدال ملابسهم القديمه والغير لائقة بأخرى جديدة حتى يزيحوا عنهم تهمة عدم العناية بالأسرى المسلمين دون أن يعلموا أن هذا الاجراء في حد ذاته هو دليل قاطع على م عنايتهم بالأسرى المسلمين ورعايتهم الرعاية الكاملة ومن جهة أخرى فقد عمل البيزنطيون على الاستفادة من الأسرى المسلمين خاصة أصحاب الحرف والصناعات ، فقاموا بتشغيلهم فى مختلف الأعمال (۱) .
ولا شك في أن القائمين على الأمور بالدولة البيزنطية قدروا ما عرف به المسلمون من تقدم حضارى فعملوا على الاستفادة من خبراتهم خاصة فى المجالات الصناعية والزراعية بالاضافة الى ذلك اشتغل بعض الأسرى المسلمين في الأعمال التجارية ، خاصة الاتجار فيما بينهم ، وجنوا من وراء ذلك بعض المكاسب المادية (1) .. أما عامة الأسرى فقد استخدموا في الأعمال الأخرى التي لا تتطلب خبرة ، ويبدو أن هذه الفئة الأخيرة نالت بعض الامتهان لدرجة أن المقدسى وصفهم بكلمة الاستعباد (٢) . ويشير رنسیمان (۳) الى أن بعض الأرقاء بالدولة البيزنطية كانوا من المسلمين الذين لم يتم فداءهم
ومن الطريف أن نذكر أن البيزنطيين عملوا كذلك على الاستفادة من الأسرى المسلمين في بعض المجالات العسكرية !! وقد اتضح ذلك فى احداث عام ٥٢٨٣ / ٨٩٦ م عندما هاجم الصقالبة الدولة البيزنطية وانزلوا بها الهزيمة (أ) ، وفشلت جهود الامبراطور ليو السادس ( ٨٨٦ - ۹۱۲م ) فى وقف تقدم الصقالبة والتفاهم معهم من أجل الكف عن مهاجمة املاك الدولة البيزنطية . وعندما أدرك ليو أن الصقالبه مصممون على المضى فى حربهم ضد الدولة البيزنطية فى حين أن قوة البيزنطيين العسكرية منهاره تماما ، كما أن حلفاءه من المجريين أصابتهم الهزيمة (۱) . لم يجد أمامه سوى الاستعانة بالأسرى المسلمين فى الدفاع عن القسطنطينية . ويشير الطبري (1) وهو مؤرخ معاصر لهذه الأحداث إلى أن الامبراطور البيزنطى » جمع من عنده من الأسرى المسلمين واعطاهم السلاح وسألهم معونته على الصقالبة ، ففعلوا وكشفوا الصقالبة » .
وعلى هذا النحو استطاع البيزنطيون بمعاونة الأسرى المسلمين انزال الهزيمة بالصقالبة وانقذوا الامبراطورية من خطرهم . ولكن بدلا من أن يكافئهم ليو السادس على هذا الجميل ، خشى من قوتهم العسكرية ومن أن يقوموا بعمل عدائى ضده وهم مجتمعون بالقسطنطينية لذا وزعهم وشتتهم على مختلف أنحاء الامبراطورية (1) !!
ولم تكن حياة الأسرى المسلمين بالدولة البيزنطية مليئة كلها بالعذاب والجهد والبلاء ، فهناك جوانب أخرى ظهر فيها حسن معاملة البيزنطيين لهم ، مثال ذلك عدم اكراهم على أكل الخنزير (۱) الذى حرمته الشريعة الاسلامية (1) . وقد روى هارون بن يحيى أنه أثناء الاحتفال الكبير الذي يقام بمناسبة احتفالات عيد الميلاد ويحضره الامبراطور والحاشية وكافة رجال الكنيسة (٢) ، وتقام به مأدبه ضخمة يجلس فى صدرها الامبراطور ويدعى اليها الأسرى المسلمون ، وقد حضر هارون أثناء حبسه ( اسر عام ٥٢٨٨ / ٩٠٠ هذه الاحتفالات وما كان يجرى بها ووصفها لنا بقوله : ثم يؤتى بالمسلمين - يقصد الأسرى المسلمين - وعلى تلك الموائد من الحار والبارد أمر عظيم ، ثم ينادى منادى الملك فيقول وحياة رأس الملك ما في هذه الأطعمة شيء من لحم الخنزير ، وينقل اليهم تاك الأطعمة في صحاف الذهب والفضة » (٤) وفى هذا تأكيد على عدم اكراه البيزنطيين للأسرى المسلمين . على أكل لحم الخنزير .
ومن جهة أخرى فان البيزنطيين تركوا حرية التنقل داخل الدولة البيزنطية لبعض الأسرى المسلمين خاصة الذين قضوا مددا طويلة بها ، وذلك بطبيعة الحال تحت مراقبة دقيقة من قبل السلطات البيزنطية . كذلك فان البيزنطيين تحاشوا تعذيب الأسرى المسلمين وقد أشار الى ذلك المقدسى بقوله (۱) . « ولا يثقبون انفا ولا يشقون لسانا « ، وابتعدوا عن اتباع ما كان سائدا في تلك العصور من أساليب التعذيب ، وكانوا اذا حكموا على أحد الأسرى المسلمين بالاعدام يقومون باعدامه بدون تعذيب ، وقد تباهى بذلك البطريرك نيقولا في رسالته الى الخليفة العباسى المقتدر ووضح له حسن معاملة البيزنطيين للأسرى المسلمين وكيف أنهم لا يقدمون على تعذيبهم محاولا الصاق هذه التهمة بالمسلمين أنفسهم ويتضح ذلك من قوله : « ٠٠٠ مع انكم كثيرا ما تذيقون الأسرى النصارى - يقصد البيزنطيين - أنواعا من الموت العنيف البعيد عن كل شعور انسانى ، فأحيانا لا تقطعون رؤوسهم بالسيف بل تذبحونهم كالغنم من غير أن تقشعر أجسامكم أو تأخذكم الخشية والاحساس بالانسانية ، وربما علقتموهم على الأشجار وقتلتم الواحد بالسهام والحجارة (1) »
وليس لحديث نيقولا هذا أساس من الصحة ، فالمعروف ان الاسلام حض على حسن معاملة الأسير فقد جاء في التنزيل العزيز : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ) (۲). والمعروف أيضا أن الرسول الكريم ( ص ) أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى (1) على الرغم من أنهم من المشركين ، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند تناول الطعام ، ولا ينزلون بهم أى نوع من العذاب (٤) .
ومن الأمثلة الدالة على حسن . معاملة المسلمين الأسراهم مارواه أبو عزيز بن عمير بن هاشم الذي كان أحد الأسرى الذين وقعوا في يد المسلمين في غزوة بدر ، حيث قال متحدثا عن كيفية معاملة المسلمين له : « فكانوا اذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز ، وأكلوا . التمر ، لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم اياهم بنا . ما تقع فى يد رجل منهم كسرة خبز الا نفحني بها . قال : فأستحى فأردها على أحدهم : غيردها على ما يمسها (۲) ) .
الرابط
اضغط هنا
0 التعليقات :
إرسال تعليق